روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (24)

{ سلام عَلَيْكُمُ } أي قائلين ذلك وهو بشارة بدوام السلامة ، فالجملة مقول لقول محذوف واقع حالاً من فاعل { يَدْخُلُونَ } [ الرعد : 23 ] وجوز كونها حالاً من غير تقدير أي مسلمين ، وهي في الأصل فعلية أي يسلمون سلاماً ، وقوله تعالى : { بِمَا صَبَرْتُمْ } متعلق كما قال أبو البقاء بما تعلق به { عَلَيْكُمْ } أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه ، ومنع هذا كما قال السيوطي السفاقسي وقال : لا وجه له ، والصحيح أنه متعلق بما تعلق به { عَلَيْكُمْ } وجوز الزمخشري تعلقه بسلام على معنى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ؛ ومنعه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر ، ووجه ذلك في الدر المصون بأن المنع إنما هو في المصدر المؤول بحرف مصدري وهذا ليس منه مع أن الرضي جوز ذلك مع التأويل أيضاً وقال : لا أراه مانعاً لأن كل مؤول بشيء لا يثبت له جميع أحكامه ، وجوز لهذه العلة العلامة الثاني تقديم معمول المصدر المؤول بأن والفعل عليه في نحو قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } [ النور : 2 ] وقال في «الكشف » : إن { عَلَيْكُمْ } نظراً إلى الأصل غير أجنبي فلذلك جاز أن يفصل به ، على أن الزمخشري لم يصرح بأنه معموله بل من مقتضاه ولذا قال : أي نسلم الخ فدل على أن التعلق معنوي يقدر ما يناسبه ، ولوجعل معمولاً للظرف المستقر أعني { عَلَيْكُمْ } فيكون متعلقاً معنى بسلام ضرورة لكان وجهاً خالياً عن التكليف ، وجعله أبو حيان خبر مبتدأ محذوف و { مَا } مصدرية والباء سببية أو بدلية أي هذا الثواب الجزيل بسبب صبركم في الدنيا على المشاق أو بدله . وعن أبي عمران بما صبرتم على دينكم ، وعن الحسن عن فضول الدنيا ، وعن محمد بن النصر على الفقر ، والتعميم أولى ، وتخصيص الصبر بالذكر من بين الصلات السابقة لما أنه ملاك الأمر والأمر المعنى به كما علمت { فَنِعْمَ عقبى الدار } أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة ، وقيل : المراد بالدار الآخرة ، وقال بعضهم : المراد أنهم عقبوا الجنة من جهنم ، قال ابن عطية : وهذا مبني على ما ورد من أن كل رجل من أهل الجنة قد كان له مقعد من النار فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى بالجنة بإيمانك وصبرك . وقرأ ابن يعمر { فَنِعْمَ } بفتح النون وكسر العين وذلك هو الأصل ، وابن وثاب { فَنِعْمَ } بفتح النون وسكون العين وتخفيف فعل لغة تميم ، وجاء فيها كما في «الصحاح » { نِعْمَ } بكسر النون واتباع العين لها ؛ وأشهر استعمالاتها ما عليه الجمهور .

وأخرج ابن جرير عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبول الشهداء على رأس كل حول فيقول : { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } وكذا كان يفعل أبو بكر . وعمر . وعثمان رضي الله تعالى عنهم ، وتمسك بعضهم بالآية على أن الملك أفضل من البشر فقالوا : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ولا شك أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير . والوزير . والقاضي . والمفتي دل على أن درجة المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذا ههنا ، وهو من الركاكة بمكان .

ولم لا يجوز أن يكون ما هنا نظير ما إذا أتى السلطان بشخص من عماله الممتازين عنده قد أطاعه في أوامره ونواهيه إلى محل كرامته ثم بعد أن أنزله المنزل اللائق به أرسل خدمه إليه بالهدايا والتحف والبشارة بما يسره فهل إذا قيل : إن فلاناً قد أحله السلطان محل كرامته ودار حكومته وأنزله المنزل اللائق به وأرسل خدمه إليه بما يسره كان ذلك دليلاً على أن أولئك الخدم أعلى درجة منه ؟ لا أظنك تقول ذلك . نعم جاء في بعض الأخبار ما يؤيد بظاهره ما تقدم ، فقد أخرج أحمد . والبزار . وابن حبان . والحاكم وصححه . وجماعة عن عبد الله بن عمرو قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم فيقول الله تعالى : إن هؤلاء عباد لي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئاً وتسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » ومن أنصف ظهر له أن هذا لا يدل على أن الملائكة مطلقاً أفضل من البشر مطلقاً كما لا يخفى ، وذكر الإمام الرازي في تفسير الآية على الوجه المروى عن الأصم في تفسير دخول الملائكة من كل باب أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوى مختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفات المخصوصة فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب اه . وتعقبه أبو حيان بأنه كلام فلسفي لا تفهمه العرب ولا جاءت به الأنبياء عليهم السلام فهو مطروح لا يلتفت إليه المسلمون . وأنت تعلم أن مثل هذا كلام كثير من الصوفية .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 24 ] يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والإمدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذي صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستر فيه