التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (24)

{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ( 19 ) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ( 20 ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ( 21 ) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون 1 بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ( 22 ) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( 23 ) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( 24 ) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 25 ) } [ 19-25 ] .

تساءلت الآية الأولى تساؤلا استنكاريا عما إذا كان يصح التسوية بين الذي رأى نور الحق فشع في قلبه فاهتدى وتيقن بأن ما ينزل على النبي إنما هو من الله ، وبين أعمى القلب والبصيرة ثم قررت : إنما يعقل هذا ويتذكر به ذوو العقول السليمة .

ثم احتوت الآيات التالية وصفا قويا محببا لمن يشع الإيمان في قلوبهم ويهتدوا بهدى الله ورسوله . فهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ما ارتبطوا به من مواثيق . ويصلون ما أمر الله به أن يوصل من رحم وبر ومعونة وتسديد وإصلاح ، ويحسبون حساب الوقوف بين يدي الله ويستشعرون خشيته ، ويصبرون على الشدائد والمواقف الصعاب في سبيل الله وابتغاء رضوانه وحسب ، ويقومون بواجباتهم التعبدية ، وينفقون المال في السر والعلن في وجوه البر والمعروف .

ويتقون عواقب الهنوات والسيئات ويدفعونها بالحسنات وأعمال الخير . فهؤلاء لهم خير الجزاء والتكريم في الآخرة ولمن سار على طريقتهم القويمة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ؛ حيث يدخلون الجنة ويتلقون تحية الملائكة من كل صوب .

واحتوت الآية الأخيرة بالمقابلة وصفا قويا لمن أظلمت قلوبهم وخبثت سرائرهم : فهم الذين ينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، ولهم اللعنة من الله وسوء المنزل والمصير في الآخرة .

تعليق على مجموعة الآيات

{ أفمن يعلم أنما أنزل . . . } إلى آخر الآية [ 25 ] .

ذكر البغوي بلفظ ( قيل ) إن الآية الأولى نزلت في حمزة وأبي جهل أو في عمّار وأبي جهل على سبيل المقايسة . وروح الآية ونصها يلهمان أنها والآيات التي تأتي بعدها وحدة تامة . وروح الآيات ونصها يلهمان بقوة أنها على سبيل المقايسة بين المؤمنين الذين استجابوا لربهم والكافرين الذين لم يستجيبوا بصورة عامة وأنها وبالتالي معقبة على ما قبلها . والراجح أن ما جاء في وصف الأولين هو وصف لواقع حال المؤمنين الأولين في العهد المكي . وقد تكرر مثل ذلك في سور سابقة على ما نبهنا عليه في مناسباتها . وفي الوصف صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون من استغراق في دين الله وما أوجبه عليهم من واجبات تعبدية واجتماعية وسلوكية . ويتبادر لنا أن حكمة مجيء الأفعال فيها بصيغة المضارع هي ليكون ما فيها عام المدى مستمر التلقين .

والمجوعة ليست الأولى من بابها ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار ما فيها بتكرار المواقف ، وفيها تنويه بأثر الإيمان والكفر في سلوك الناس وصلاح المجتمع وفساده ، وفيها جماع أهداف الدعوة الإسلامية والصفات الصالحة الشخصية والاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها أفضل مجتمع إنساني إذا اتصف أفراده أو غالبهم بها ، كما فيها ما فيه سبب فساد الأرض والمجتمع . ويصح أن تعد من أجل ذلك من روائع المجموعات القرآنية التي امتاز بها القرآن في الأسلوب وبعد المدى .

وروح الآيات تلهم أن الصفات التي وصف بها المؤمنون هي ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كل دورة ، أو هي الصفات الطبيعية التي ينبغي أن يتصفوا بها . وهذا يؤدي إلى القول بأن المسلم الذي لا يتصف بها قد أحسن إدراك أهداف الرسالة الإسلامية وأخلص في الاندماج فيها .

وجملة { ومن صلح } قيد احترازي كما هو المتبادر لإخراج غير الصالحين من تبعية ومرتبة الصالحين من المؤمنين مهما كانت صلات القربى بينهم وشيجة . ومثل هذا القيد ورد في سور سبق تفسيرها مثل آية سورة غافر [ 8 ] وآية سورة الذاريات [ 21 ] ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد هذا المعنى مرة بعد مرة . وهي حكمة جليلة المدى والمغزى بدون ريب . ومما انطوى فيها كما يتبادر ، حض ذوي الصالحين من آباء وأزواج وذرية على اللحاق بأعمالهم بالصالحين منهم ، لينالوا مرتبتهم عند الله تعالى .

ويتبادر لنا معنى عظيم لمدى تعبير الوفاء بعهد الله في هذا المقام ؛ من حيث إن المرء بدخوله في دين الله يكون قد عاهد ربه على القيام بجميع ما أمر به واجتناب جميع ما نهى عنه من أخلاق شخصية واجتماعية وواجبات شخصية واجتماعية أيضا .

ولقد قال البغوي في سياق تفسير جملة { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } : إن الأكثرية على أن الجملة هي في صدد صلة الرحم ، ثم أخذ يورد أحاديث نبوية في ذلك رواها بطرقه . منها حديث عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( سمعت رسول الله يحكي ربه عز وجل قال : أنا الله والرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ){[1190]} . وحديث عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن فقال : مَهْ قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب . قال فذاك لك ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمد : 22 ] ){[1191]} .

وحديث عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاثة تحت العرش يوم القيامة يحاج العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي : ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ) {[1192]} . وحديث عن أنس بن مالك قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ){[1193]} . وحديث عن أبي بكرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) . وحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال : ( إن أعربيا عرض لرسول الله في مسير له فقال : أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال : تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ) {[1194]} . وحديث عن عبد الله بن عمرو قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها ) {[1195]} .

وصلة الرحم من الأعمال المبرورة التي يجب أن يتصف بها المسلم بدون ريب . وفي الأحاديث المروية تلقينات واجبة الالتزام في ذلك . ومع ذلك فالذي يتبادر لنا من إطلاقه العبارة القرآنية أنها أعمّ وأشمل من صلة الرحم وأنها تتناول كل ما أمر الله به أن يوصل ولا يقطع بصورة عامة .

ولقد رأينا الطبرسي وهو مفسر شيعي يروي في سياق العبارة تأويلا عن موسى بن جعفر الكاظم أحد الأئمة أن الأمر الذي في الآية هو في صدد رحم آل محمد ، وأنها معلقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني . وهي تجري في كل رحم . والتكلف والهوى الحزبي بارزان على الرواية كما هو ظاهر .

ولقد أورد البغوي في سياق جملة { ويدرءون بالحسنة السيئة } حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : ( إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية ) . وحديثا آخر عن عقبة بن عامر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات ، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض ) . حيث ينطوي في الحديثين تلقين وتأدب نبويان حكيمان . وهذا التلقين والتأديب مندمجان في جملة { إن الحسنات يذهبن السيئات } الواردة في الآية [ 114 ] من سورة هود ، والتي ورد في سياقها أحاديث نبوية أخرى أوردناها في مناسباتها . ولقد ورد في سورة القصص جملة مماثلة للجملة التي نحن في صددها بسبيل الثناء والتنويه ببعض المؤمنين من أهل الكتاب ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار التلقين والتأديب واقتضت حكمة النبي تكرار مثل ذلك في هذه المسألة .

والحكمة في ذلك جليلة المدى والمغزى بدون ريب .


[1190]:روى هذا الحديث الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 5 ص .10
[1191]:روى هذا الحديث الشيخان أيضا، انظر المصدر نفسه ص 9.
[1192]:روى مسلم شيئا من هذا الحديث عن عائشة قالت: ( قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله). انظر المصدر السابق نفسه ص 10.
[1193]:هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي، انظر المصدر السابق نفسه ص 9.
[1194]:روى هذا الحديث بصيغة مقاربة الشيخان، انظر المصدر السابق نفسه ص 8-9.
[1195]:روى هذا الحديث البخاري وأبو داود أيضا انظر المصدر السابق نفسه ص 9 .