مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (24)

{ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب }

القيد الثاني : قوله : { جنات عدن يدخلونها } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال الزجاج : جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند قوله تعالى : { ومساكن طيبة في جنات عدن } وذكرنا هناك مذهب المفسرين ، ومذهب أهل اللغة .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يدخلونها } بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم .

القيد الثالث : { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن علية ( صلح ) بضم اللام ، قال صاحب الكشاف : والفتح أفصح .

المسألة الثانية : قال الزجاج : موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله { يدخلونها } ويجوز أن يكون نصبا كما تقول قد دخلوا وزيدا أي مع زيد .

المسألة الثالثة : في قوله : { ومن صلح } قولان : الأول : قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم ، وقال الزجاج : بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة . قال الواحدي : والصحيح ما قال ابن عباس ، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة ، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به ، إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة .

واعلم أن هذه الحجة ضعيفة ، لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ، ويقال : إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون : { قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين } .

المسألة الرابعة : قوله : { وأزواجهم } ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك ، كالدليل على ما ذكرناه .

القيد الرابع : قوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم : { سلام عليكم بما صبرتم } على أمر الله . وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى .

واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة ، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ، ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ، ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية والسلام ويبشرونهم بقوله : { فنعم عقبى الدار } ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول : « السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف ، منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون . فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص ؛ فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا من مقام الشكر . وهكذا القول في جميع المراتب .

المسألة الثانية : تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم فكانوا به أجل مرتبة من البشر ، ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي ، فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا .

المسألة الثالثة : قال الزجاج : ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلا عليه ، وأما قوله : { بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ففيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بالسلام . والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات ، وترك المحرمات . والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير : أن هذه الكرامات التي ترونها ، وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر .