قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } من مشركي قريش ، { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } ، قال ابن عباس : يعني الغطوا فيه ، وكان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو . قال مجاهد : والغوا فيه بالمكاء والصفير . وقال الضحاك : أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول . وقال السدي : صيحوا في وجهه . { لعلكم تغلبون } محمداً على قراءته .
ثم حكى - سبحانه - ما تواصى به المشركون فيما بينهم فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } .
وقوله : { والغوا فِيهِ } من اللغو ، وهو الكلام الساقط الذى لا فائدة فيه يقال : لغا فلان فى كلامه يلغو ، إذا نطق بكلام ساقط لا خير فيه .
ويبدو أن هذا الكلام قد قاله الزعماء من كفار مكة لأتباعهم ، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال : قال أبو جهل - لأتباعه - : إذا قرأ محمد فصيحوا فى وجهه ، حتى لا يدري ما يقول .
أى : وقال زعماء الكفر لأتباعهم : لا تسمعوا لهذا القرآن الذى يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا تنصتوا إليه ، بل ابتعدوا عن قارئيه ، والغوا فيه أى : وأظهروا عند قراءته أصواتكم باللغو من القول ، كالتشويش على القارئ ، والتخليط عليه فى قراءته بالتصفيق وبرفع الصوت بالخرافات والهذيان . .
{ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أى : لعلكم بعملكم هذا تتغلبون على المسلمين ، وتجعلونهم ينصرفون عن قراءة القرآن .
ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على خوفهم من تأثير القرآن فى القلوب ، هذا التأثير الذى حمل كثيرا منهم عند سماعه على الدخول فى الإِسلام ونبذ الكفر والكافرين .
كما يدل على أنهم لعجزهم عن معارضته ، وعن الإِتيان بسورة من مثله ، لجأوا إلى تلك الأساليب السخيفة ، لصرف الناس عن سماع القرآن الكريم .
وكان من تزيين القرناء لهم دفعهم إلى محاربة هذا القرآن ، حين أحسوا بما فيه من سلطان :
( وقال الذين كفروا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . .
كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم ويغرون بها الجماهير ؛ وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير .
( لا تسمعوا لهذا القرآن ) . فهو كما كانوا يدعون يسحرهم ، ويغلب عقولهم ، ويفسد حياتهم . ويفرق بين الوالد وولده ، والزوج وزوجه . ولقد كان القرآن يفرق نعم ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال . كان يستخلص القلوب له ، فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته . فكان هو الفرقان .
وهي مهاترة لا تليق . ولكنه العجز عن المواجهة بالحجة والمقارعة بالبرهان ، ينتهي إلى المهاترة ، عند من يستكبر على الإيمان .
ولقد كانوا يلغون بقصص اسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن . ويلغون بالصياح والهرج . ويلغون بالسجع والرجز . ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح وغلب القرآن ، لأنه يحمل سر الغلب ، إنه الحق . والحق غالب مهما جهد المبطلون !
وقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } أي : تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن ، ولا ينقادوا لأوامره {[25690]} ، { وَالْغَوْا فِيهِ } أي : إذا تلي لا تسمعوا له . كما قال مجاهد : { وَالْغَوْا فِيهِ } يعني : بالمكاء{[25691]} والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَالْغَوْا فِيهِ } عيبوه{[25692]} .
وقال قتادة : اجحدوا به ، وأنكروه وعادوه .
{ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن . وقد أمر الله - سبحانه - عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
قوله عز وجل : { لا تسمعوا لهذا القرآن } .
حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك ، فقالوا : متى قرأ محمد فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع الاستماع منه{[10068]} ، وهذا الفعل منهم هو اللغو .
وقال أبو العالية أرادوا : قعوا فيه وعيبوه . واللغو في اللغة : سقط القول الذي لا معنى له ، وهو من الخساسة والبطول في حكم لا معنى له .
وقرأ جمهور الناس : «والغَوا » بفتح الغين وجزم الواو . وقرأ بكر بن حبيب السهمي : «الغُوا » بضم الغين وسكون الواو ، ورويت عن عيسى وابن أبي إسحاق بخلاف عنهما وهما لغتان ، يقال لغا يلغو ، ويقال لغى يلغي ، ويقال أيضاً لغى يلغى ، أصله يفعِل بكسر العين ، فرده حرف الحلق إلى الفتح ، فالقراءة الأولى من يلغى ، والقراءة الثانية من يلغو ، قاله الأخفش .
وقوله : { لعلكم تغلبون } أي تطمسون أمر محمد عليه السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه ، فهذه الغاية التي تمنوها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الذين كفروا} يعني الكفار.
{لا تسمعوا لهذا القرءان...} إلى ثلاث آيات، هذا قول أبي جهل، وأبي سفيان لكفار قريش، قالوا لهم: إذا سمعتم القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فارفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم، حتى تلبسوا عليهم قولهم فيسكتون، فذلك قوله: {والغوا فيه} بالأشعار والكلام.
{لعلكم تغلبون} يعني لكي تغلبونهم فيسكتون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقَالَ الّذِينَ كَفروا" بالله ورسوله من مشركي قريش: "لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغُوا فِيهِ "يقول: قالوا للذين يطيعونهم من أوليائهم من المشركين: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه، ولا تصغوا له، ولا تتبعوا ما فيه فتعملوا به... وقوله: "وَالْغَوْا فيه" يقول: الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرأه كَيْما لا تسمعوه، ولا تفهموا ما فيه... عن مجاهد، في قول الله: "لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ" قال: المكاء والتصفير، وتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ، قريش تفعله...
وقوله: "لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ" يقول: لعلكم بفعلكم ذلك تصدون من أراد استماعه عن استماعه، فلا يسمعه، وإذا لم يسمعه ولم يفهمه لم يتبعه، فتغلبون بذلك من فعلكم محمدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دلّ هذا القول على أنهم قد عرفوا أنه حجة، وأنه من عند الله جاء، وأن من سمع ذلك أذعن له وأطاع، إذا لم يكابر عقله، ولهذا قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ} لئلا يُذعَن له ولا يطاع {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
وقال بعضهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ} بالمُكاء والتّصدية، وكانوا يفعلون ذلك لِيخلطوا عليه صلاته وقراءته،
{لعلكم} بالمكاء والتصدية {تغلبون} كقوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مُكاء وتصديّة} [الأنفال: 35]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استولى على قلوبهم الجَحْدُ والإنكارُ، ودام على العداوة فيهم الإصرارُ؛ فاحتالوا بكل وجهٍ، وتواصَوْا فيما بينهم بألا يستمعوا لهذا القرآن لأنه يغلب القلوب، ويسلب العقول، وكل مَنْ استمع إليه صَبَا إليه، وقالوا: إذا أَخذَ محمدٌ في القرآن فأَكْثِرُوا عند قراءته اللَّغوَ واللغطَ حتى يقع في السهو الغَلَط، ولم يعلموا أن الذي نُوِّرَ قلبُه بالإيمان، وأُيِّدَ بالفهم وأُمِّدَ بالنصرة، وكوشف بسماع السِّرِّ من الغيب هو الذي يسمع ويؤمن، والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمانُ قلبَه، ولا يباشر السماعُ سِرَّه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لا تسمعوا لهذا القرآن} حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي إليه الناس من مؤمن وكافر، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك، فقالوا: متى قرأ محمد فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع الاستماع منه، وهذا الفعل منهم هو اللغو.
وقال أبو العالية أرادوا: قعوا فيه وعيبوه، واللغو في اللغة: سقط القول الذي لا معنى له، وهو من الخساسة والبطول في حكم [ما] لا معنى له...
{لعلكم تغلبون} أي تطمسون أمر محمد عليه السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه فهذه الغاية التي تمنوها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان من تزيين القرناء لهم دفعهم إلى محاربة هذا القرآن، حين أحسوا بما فيه من سلطان: (وقال الذين كفروا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).. كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم ويغرون بها الجماهير؛ وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير. (لا تسمعوا لهذا القرآن). فهو كما كانوا يدعون يسحرهم ويغلب عقولهم ويفسد حياتهم، ويفرق بين الوالد وولده والزوج وزوجه. ولقد كان القرآن يفرق نعم، ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر والهدى والضلال. كان يستخلص القلوب له، فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته، فكان هو الفرقان.
(والغوا فيه لعلكم تغلبون) وهي مهاترة لا تليق، ولكنه العجز عن المواجهة بالحجة والمقارعة بالبرهان، ينتهي إلى المهاترة، عند من يستكبر على الإيمان. ولقد كانوا يلغون بقصص اسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن. ويلغون بالصياح والهرج. ويلغون بالسجع والرجز. ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح وغلب القرآن؛ لأنه يحمل سر الغلب، إنه الحق. والحق غالب مهما جهد المبطلون!...