قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } أي : صلوا ، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود ، { واعبدوا ربكم } وحدوه ، { وافعلوا الخير } قال ابن عباس : صلة الرحم ومكارم الأخلاق { لعلكم تفلحون } لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة . واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عقيب قراءة هذه الآية : فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك ، و الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا قتيبة ، أنبأنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله " فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين . قال : نعم . ومن لم يسجدهما ، فلا يقرأهما " . وذهب قوم إلى أنه لا يسجد هاهنا ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي . وعدة سجود القرآن أربعة عشر عند أكثر أهل العلم ، منها ثلاث في المفصل . وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل سجود . روي ذلك عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، وبه قال مالك . وقد صح عن أبي هريرة قال : " سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : في اقرأ وإذا السماء انشقت " وأبو هريرة من متأخري الإسلام . واختلفوا في سجود صاد ، فذهب الشافعي : إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وذهب قوم إلى أنه يسجد فيها ، روي ذلك عن عمر ، وبه قال سفيان الثوري ، و ابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، و أحمد ، و إسحاق ، فعند ابن المبارك ، و إسحاق ، و أحمد ، وجماعة : سجود القرآن خمس عشرة سجدة ، فعدوا سجدتي الحج وسجدة ص ، وروي عن عمرو بن العاص أن " النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدةً في القرآن " .
ثم وجه - سبحانه - فى نهاية السورة نداء إلى عبادة المؤمنين ، أمرهم فيه بالمداومة على طاعته ، وبالإخلاص فى عبادته ، وبالجهاد فى سبيله ، وبالاعتصام بحبله ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا . . . } .
والمراد بالركوع والسجود هنا : الصلاة ، وعبر عنها بهما ، لأنهما أهم أركانها ، وناداهم - سبحانه - بصفة الإيمان ، لحضهم على الامتثال لما أمروا به .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر حافظوا على أداء الصلاة فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، لأن هذه الصلاة من شأنها أن تنهاكم عن الفحشاء والمنكر ، وأن ترفع درجاتكم عند خالقكم .
وقوله - تعالى - : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } أى : واعبدوا ربكم الذى تولاكم برعايته وتربيته فى كل مراحل حياتكم ، عبادة خالصة لوجهه الكريم .
وقوله : { وافعلوا الخير } تعميم بعد التخصيص ، إذ فعل الخير يشمل كل قول وعمل يرضى الله - تعالى - : كإنفاق المال فى وجوه البر ، وكصلة الرحم والإحسان إلى الجار وكغير ذلك من الأفعال التى حضت عليها تعاليم الإسلام .
وقوله - تعالى - : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تذييل قصد به التحريض على امتثال ما أمره الله - تعالى - به ، والفلاح : الظفر بالمطلوب .
أى : أدوا الصلاة بخشوع ومواظبة ، واعبدوا ربكم عبادة خالصة ، وافعلوا الخير الذى يقربكم من خالقكم ، لكى تنالوا رضاه وثوابه - عز وجل - .
فكلمة " لعل " للتعليل ، ويصح أن تكون على معناها الحقيقى وهو الرجاء ، ولكن على تقدير صدوره من العباد فيكون المعنى : وافعلوا الخير حالة كونكم راجين الفلاح ، ومتوقعين الفوز والنجاح .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها أنها قد جمعت أنواع التكاليف الشرعية ، وأحاطت بها من كل جوانبها .
قال الآلوسى ما ملخصه : وهذه الآية آية سجدة عند الشافعة وأحمد ، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ، ولحديث عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما .
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها ليست آية سجدة . لأنها مقرونة بالأمر بالركوع ، والمعهود فى مثله من القرآن ، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة ، كما فى قوله - تعالى - : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } وما روى من حديث عقبة إسناده ليس بالقوى .
والآن وقد كشف عما في منسك المشركين من سخف وضعف ؛ وعما في عبادتهم من قصور وجهل . . الآن يتوجه بالخطاب إلى الأمة المسلمة ، لتنهض بتكاليف دعوتها ، وتستقيم على نهجها العريق القويم :
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ، واعبدوا ربكم ، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ؛ وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم إبراهيم . هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس . فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، واعتصموا بالله هو مولاكم ، فنعم المولى ونعم النصير ) . .
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها ، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة ، وحركة ظاهرة في التعبير ، ترسمها مشهدا شاخصا ، وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور .
ويثني بالأمر العام بالعبادة . وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيء ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه !
ويختم بفعل الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة . .
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة : ( وجاهدوا في الله حق جهاده )
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص «الركوع والسجود » بالذكر تشريفاً للصلاة ، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة ؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا{[8440]} ، وقوله { وافعلوا الخير } ، ندب ، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع ، وقوله { لعلكم } ترجٍّ في حق المؤمنين كقوله { لعله يتذكر أو يخشى }{[8441]} [ طه : 44 ] و «الفلاح » في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل .