نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩} (77)

ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده ، وأنه قد أحكم شرعه ، وحفظ رسله ، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ دين شاء ، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب ، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته ، أقبل إليه مقبلون ، خاطب المقبلين إلى دينه ، وهم الخلص من الناس ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي قالوا : آمنا { اركعوا } تصديقاً لقولكم { واسجدوا } أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين ، فإنها رأس العبادة ، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان ، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما ، لأنهما - لمخالفتهما الهيئات المعتادة - هما الدالان على الخضوع ، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح - لما غلب عليه من العتو - بعض الهيئات الدالة على ذل .

ولما خص أشرف العبادة ، عم بقوله : { واعبدوا } أي بأنواع العبادة { ربكم } المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية . ولما ذكر عموم العبادة ، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها ، وقد يكون بلا نية ، فقال : { وافعلوا الخير } أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك ، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية ، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله ، وهو قريب من " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " قال أبو حيان : بدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم . { لعلكم تفلحون* } أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح ، وهو الفوز بالمطلوب ؛ قال ابن القطاع : أفلح الرجل : فاز بنعيم الآخرة ، وفلح أيضاً لغة فيه . وفي الجمع بين العباب والمحكم : الفلح والفلاح : الفوز والبقاء وفي التنزيل{ قد أفلح المؤمنون }[ المؤمنون : 1 ] أي نالوا البقاء الدائم ، وفي الخبر : أفلح الرجل : ظفر . ويقال لكل من أصاب خيراً : مفلح .