اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩} (77)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا } إلى آخر السورة . لما ذكر الإلهيات{[31978]} ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع ، وهو من أربعة أوجه :

الأول : تعيين المأمور .

والثاني : أقسام المأمور به .

والثالث : ذكر ما يوجب تلك الأوامر .

والرابع : تأكيد ذلك التكليف .

فأما تعيين المأمور به فهو قوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ } وهذا خطاب للمؤمنين ؛ لأنه صرح{[31979]} بهم ، ولقوله : «هُوَ اجْتَبَاكُمْ » ، ولقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين } ، وقوله { وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس } . وقيل : خطاب لكل المكلفين مؤمناً كان أو كافراً ؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك . وأما فائدة التخصيص ، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه ، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد . وأما المأمور به{[31980]} فأربعة أمور :

الأول : الصلاة وهو المراد بقوله : «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا » وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود ، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين ، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة ، وذكر ابن عباس : أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية .

والثاني : قوله : «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ » قيل : وحدوه . وقيل : اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات . وقيل : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة .

الثالث : قوله : «وَافْعَلُوا الخَيْرَ » قال ابن عباس : هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » لكي تفوزوا بالجنة . وقيل : كلمة «لَعَلَّ » للترجي{[31981]} ، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة{[31982]} من تقصير ، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة «وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له »{[31983]} .

فصل

اختلفوا في سجود التلاوة{[31984]} عند قراءة هذه الآية ، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس : إلى أنه يسجد ، وبه قال ابن المبارك{[31985]} والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر{[31986]} قال : «قلت : يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال : «نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما »{[31987]} وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا يسجد هاهنا . وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل ، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس : ليس{[31988]} في المفصل سجود ، وبه قال مالك .

وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في «اقْرَأ »{[31989]} و { إِذَا السماء انشقت }{[31990]} [ الانشقاق : 1 ] . وأبو هريرة متأخر الإسلام . واختلفوا في سجدة ص{[31991]} فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق{[31992]} .


[31978]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/72 – 73 بتصرف يسير.
[31979]:في ب: صريح.
[31980]:به: سقط من ب.
[31981]:وهو قول الإمام أبي القاسم الأنصاري.
[31982]:في الأصل: فريضة.
[31983]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/ 72 – 73 بتصرف يسير.
[31984]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/614.
[31985]:تقدم.
[31986]:هو عقبة بن عامر الجهني، أخذ عنه جابر، وابن عباس، وقيس بن أبي حازم، كان فصيحا شاعرا، مفوها، كاتبا، قارئا لكتاب الله عالما، مات سنة 58 هـ. تهذيب التهذيب 7/242 – 244.
[31987]:أخرجه أحمد في مسنده 4/151.
[31988]:ليس: سقط من ب.
[31989]:عند قوله تعالى: {كلا لا تطعه واسجد واقترب} [العلق: 19].
[31990]:[الانشقاق: 1]. أي عند قوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق: 21]. والحديث أخرجه ابن ماجه (إقامة) 1/336.
[31991]:عند قوله تعالى: {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24].
[31992]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/614.