السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩} (77)

ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي : تلبسوا بالإيمان { اركعوا } تصديقاً لإيمانكم { واسجدوا } أي : صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان .

تنبيه : إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع ، فحسن التعبير بهما ، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون ، وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية ، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى : { واعبدوا } أي : بأنواع العبادة { ربكم } أي : المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية ، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها ، أو قد يكون بلا نية ، فقال : { وافعلوا الخير } أي : كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى ؛ قال أبو حيان : بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة ، ثم بعام وهو : واعبدوا ربكم ، ثم بأعمّ وهو : وافعلوا الخير { لعلكم تفلحون } أي : افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين ، ولا تتكلوا على أعمالكم ، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ : لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير ، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له .

تنبيه : اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما » حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه ، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري ، وقول أبي حنيفة وأصحابه ؛ لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع في ذلك ، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة .