ثم حكى - سبحانه - ما قاله عيسى - عليه السلام - لقومه ، عندما بعثه الله إليهم فقال : { وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } .
والبينات : جمع بينة . وهى صفة لموصوف محذوف ، والمراد بها : المعجزات التى أيد الله - تعالى - بها عيسى - عليه السلام - .
والمراد بالحكمة : التشريعات والتكاليف والمواعظ التى أرشدهم إليها ، عن طريق الكتاب الذىأنزله الله تعالى إليه ، وهو الإِنجيل .
أى : وحين جاء عيسى - عليه السلام - إلى قومه ، قال لهم على سبيل النصح والإِرشاد : يا قوم لقد جئتكم بالمعجزات البينات الواضحة التى تشهد بصدقى وجئتكم بالإِنجيل المشتمل على ما تقتضيه الحكمة الإِلهية من آداب وتشريعات ومواعظ .
وقوله : { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } متعلق بمحذوف والتقدير :
قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ، وجئتكم - أيضا - لأبين لكم ولأصحح لكم بعض الأمور التى تختلفون فيها .
وقال - سبحانه - { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } ولم يقل لكم كل الذى تختلفون فيه ، للإِشعار بالرحمة بهم وبالستر عليهم ، حيث بين البعض وترك البعض الآخر ، لأنه لا ضرورة تدعو إلى بيانه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا بين لهم كل الذى يختلفون فيه ؟ قلت : كانوا يختلفون فى الديانات ، وما يتعلق بالتكليف ، وفيهما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه ، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم . .
وقوله - تعالى - : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ، فاتقوا الله - تعالى - بأنه تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وبأن تطيعونى فى كل ما آمركم به أو أنهاكم عنه .
وإن الله - تعالى - هو ربى وربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ، وهذا الذى آمركم به أو أنهاكم عنه ، هو الطريق القويم ، الذى يوصلكم إلى السعادة الدنيوية والأخروية .
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى - عليه السلام - وحقيقة ما جاء به ؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده :
( ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ، هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه ، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم . وقال لقومه : ( قد جئتكم بالحكمة ) . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير ؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور . وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه . وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى - عليه السلام - وانقسموا فرقاً وشيعاً . ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله .
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ } أي : بالنبوة { وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ }
قال ابن جرير : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية {[26112]} . وهذا الذي قاله حسن جيد ، ثم رد قول من زعم أن " بعض " هاهنا بمعنى " كل " ، واستشهد بقول لبيد الشاعر :
تَرّاك أمْكنَة إذَا لم أرْضَها{[26113]} *** أو يَعْتَلق{[26114]} بَعْضَ النفوس حِمَامُها{[26115]}
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس . قال ابن جرير : وإنما أراد نفسه فقط ، وعبر بالبعض عنها . وهذا الذي قاله محتمل .
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : [ فيما ]{[26116]} أمركم به ، { وأطيعون } ، فيما جئتكم به ،
{ ولما جاء عيسى بالبينات } بالمعجزات أو بآيات الإنجيل ، أو بالشرائع الواضحات . { قال قد جئتكم بالحكمة } بالإنجيل أو بالشريعة . { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } وهو ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا ، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لبيانه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " أنتم أعلم بأمر دنياكم " { فاتقوا الله وأطيعون } فيما أبلغه عنه .
«البينات » التي جاء بها عيسى عليه السلام هي : إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، إلى غير ذلك . وقال قتادة : الإنجيل . والحكمة : النبوءة قاله السدي وغيره .
وقوله : { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } قال أبو عبيدة : { بعض } بمعنى كل ، وهذا ضعيف ترده اللغة ، ولا حجة له من قول لبيد :
أو يعتلق بعض النفوس حمامها . . . لأنه أراد نفسه ونفس من معه ، وذلك بعض النفوس ، وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور ، أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عدداً ، منها أمور أخروية ودينية ، ومنها ما لا مدخل له في الدين ، فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة ، فذلك بعض ما يختلف فيه .