قوله عز وجل : { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي : أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق ، وهو معنى الطمس كما قال الله عز وجل : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } يقول : كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة ، { فاستبقوا الصراط } فتبادروا إلى الطريق ، { فأنى يبصرون } فكيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم ؟ يعني : لو نشاء لأضللناهم عن الهدى ، وتركناهم عمياً يتردون ، فكيف يبصرون الطريق حينئذ ؟ هذا قول الحسن و السدي ، وقال ابن عباس ، و قتادة ، و مقاتل ، و عطاء : معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم ، فأعميناهم عن غيهم ، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ؟ ولم أفعل ذلك بهم .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء الكافرين هم فى قبضته فى كل وقت فقال : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ } .
وقوله : { لَطَمَسْنَا } الطمس إزالة أثر الشئ عن طريق محوه . يقال : طمست الشئ طمسا - من باب ضرب - بمعنى محوته وأزلت أثره ، والمطموس والطميس الأعمى . ومفعول المشيئة محذوف . والصراط : الطريق وهو منصوب بنزع الخافض .
أى : ولو نشاء طمس أعينهم بأن نمحو عنها الرؤية والإِبصار لفعلنا ، ولكنا لم نفعل بهم ذلك فضلا منا عليهم ، ورحمة بهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوا نعمنا بالشكر لا بالكفر .
وقوله - سبحانه - : { فاستبقوا الصراط } معطوف على { لَطَمَسْنَا } على سبيل الفرض .
أى : لو نشاء محو أبصارهم لمحوناها ، فلو أرادوا فى تلك الحالة المبادرة إلى الطريق ليسيروا فيه ، أو ليعبروه لما استطاعوا ذلك . لأنهم كيف يستطيعون ذلك وهم لا يبصرون شيئاً .
فالاستفهام فى قوله - تعالى - : { فأنى يُبْصِرُونَ } لاستبعاد اجتيازهم الطريق ، ونفى قدرتهم على التصرف .
كذلك انتهى المشهد وألسنتهم معقودة وأيديهم تتكلم ، وأرجلهم تشهد ، على غير ما كانوا يعهدون من أمرهم وعلى غير ما كانوا ينتظرون . ولو شاء الله لفعل بهم غير ذلك ، ولأجرى عليهم من البلاء ما يريد . . ويعرض هنا نوعين من هذا البلاء لو شاء الله لأخذ بهما من يشاء :
( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط ، فأنى يبصرون ؛ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون ) . .
وهما مشهدان فيهما من البلاء قدر ما فيهما من السخرية والاستهزاء . السخرية بالمكذبين والاستهزاء بالمستهزئين ، الذين كانوا يقولون : ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? ) . .
فهم في المشهد الأول عميان مطموسون . ثم هم مع هذا العمى يستبقون الصراط ويتزاحمون على العبور ، ويتخبطون تخبط العميان حين يتسابقون ! ويتساقطون تساقط العميان حين يسارعون متنافسين ! ( فأنى يبصرون )
وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسيرها : يقول : ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى ، فكيف يهتدون ؟ وقال مرة{[24818]} : أعميناهم .
وقال الحسن البصري : لو شاء الله لطمس على أعينهم ، فجعلهم عُميًا يترددون .
وقال السدي : لو شِئْنا أعمينا أبصارهم .
وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي : { فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ } يعني : الطريق .
وقال ابن زيد : يعني بالصراط هاهنا : الحق ، { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } وقد طمسنا على أعينهم ؟
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } ] يقول ]{[24819]} : لا يبصرون الحق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّراطَ فقال بعضهم : معنى ذلك : ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى ، وأضللناهم عن قصد المَحَجّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ يقول : أضللتهم وأعميتهم عن الهدى .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولو نشاء لتركناهم عميا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ قال : لو يشاء لطمس على أعينهم فتركهم عميا يتردّدون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فأنّى يُبْصِرُونَ يقول : لو شئنا لتركناهم عميا يتردّونه .
وهذا القول الذي ذكرناه عن الحسن وقتادة أشبه بتأويل الكلام ، لأن الله إنما تهدّد به قوما كفارا ، فلا وجه لأن يقال : وهم كفار ، لو نشاء لأضللناهم وقد أضلهم ، ولكنه قال : لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم ، فطمسنا على أعينهم فصيرّناهم عميا لا يبصرون طريقا ، ولا يهتدون له والطّمْس على العين : هو أن لا يكون بين جفني العين غرّ ، وذلك هو الشقّ الذي بين الجفنين ، كما تطمس الريح الأثر ، يقال : أعمى مطموس وطميس .
وقوله : فاسْتَبَقُوا الصّراطَ يقول : فابتدروا الطريق ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فاسْتَبَقَوا الصّرَاطَ قال الطريق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاسْتَبَقُوا الصّراطَ : أي الطريق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْتَبَقُوا الصّراطَ قال : الصراط ، الطريق .
وقوله : فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول : فأيّ وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق ، وقد طمسنا على أعينهم ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَأنّى يُبْصِرُون وقد طمسنا على أعينهم .
وقال الذين وجهوا تأويل قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ إلى أنه معنيّ به العَمَى عن الهدى ، تأويل قوله : فَأنّى يُبْصِرُونَ : فأنى يهتدون للحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَأتّى يُبْصِرُونَ يقول : فكيف يهتدون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول : لا يبصرون الحقّ .
عطف على جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ يس : 48 ] . وموقع هاتين الآيَتَين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة كان ذلك مثيراً لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مِثل هذا الإِلجاء فألجأهم إلى الإِقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه ، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل ، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته . فهو قد جعل نظام الدنيا جارياً على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها وآثارها وتوالداتِها حتى إذا بَدَّل هذا العالم بعالم الحقيقة أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة . والمعنى أنّا ألجأناهم إلى الإِقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم .