الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلَوۡ نَشَآءُ لَطَمَسۡنَا عَلَىٰٓ أَعۡيُنِهِمۡ فَٱسۡتَبَقُواْ ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ يُبۡصِرُونَ} (66)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّراطَ"؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى، وأضللناهم عن قصد المَحَجّة...

وقال آخرون: معنى ذلك: ولو نشاء لتركناهم عميا... عن الحسن، في قوله: "وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ "قال: لو يشاء لطمس على أعينهم فتركهم عميا يتردّدون.

عن قتادة، قوله: "وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فأنّى يُبْصِرُونَ" يقول: لو شئنا لتركناهم عميا يتردّونه.

وهذا القول الذي ذكرناه عن الحسن وقتادة أشبه بتأويل الكلام، لأن الله إنما تهدّد به قوما كفارا، فلا وجه لأن يقال: وهم كفار، لو نشاء لأضللناهم وقد أضلهم، ولكنه قال: لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم فصيرّناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون له، والطّمْس على العين: هو أن لا يكون بين جفني العين غرّ، وذلك هو الشقّ الذي بين الجفنين، كما تطمس الريح الأثر، يقال: أعمى مطموس وطميس.

وقوله: "فاسْتَبَقُوا الصّراطَ" يقول: فابتدروا الطريق... وقوله: "فَأنّى يُبْصِرُونَ" يقول: فأيّ وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق، وقد طمسنا على أعينهم...

وقال الذين وجهوا تأويل قوله: "وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ" إلى أنه معنيّ به العَمَى عن الهدى، تأويل قوله: "فَأنّى يُبْصِرُونَ": فأنى يهتدون للحقّ.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

يقول الله تعالى مخبرا عن قدرته على إهلاك هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانيته وعبدوا سواه وجحدوا رسله إنا "لو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط "ومعناه طلبوا النجاة، والسبق إليها ولا بصر لهم.

"فانى تبصرون" وقيل: معناه فاستبقوا الطريق إلى منازلهم فلم يهتدوا إليها.

"فاستبقوا" معناه فابتدروا، وهذا بيان من الله أنهم في قبضته، وهو قادر على ما يريد بهم، فليحذروا تنكيله بهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة...

والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي تردّدوا إليها كثيراً -كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم- لم يقدروا، وتعايى عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلاً عن غيره.

أو لو شاء لأعماهم، فلوا أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف -كما كان ذلك هجيراهم- لم يستطيعوا.

أو لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقاً، يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا به من المقاصد دون غيرها.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ولو نشاء لطمسنا على أعينهم} إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا، وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة، وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا، وأنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر.

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

أنى، استفهام يراد به النفي.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أتم بضرب المثل وما بعده، الدلالة على مضمون {إنما تنذر من اتبع الذكر} وما عللت به من إحياء الموتى، ودل على ذلك بما تركه كالشمس ليس فيه لبس، وزاد من بحور الفوائد وجميل العوائد ما ملأ الأكوان من موجبات الإيمان، وذكر ما في فريقي المتبعين والممتنعين يوم البعث، وختم بالحتم على الأفواه بعد البعث، أتبعه آية الختم بالطمس والمسخ قبل الموت؛ تهديداً عطفاً على ما رجع إليه المعنى مما قبل أول ذلك الخطاب من قوله {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} الآية، دفعاً لما ربما وقع في وهم أحد أن القدرة لا تتوجه إلى غير الطمس في المعاني، بضرب السد وما في معناه، فأخبر أنه كما أعمى البصائر قادر على إذهاب الأبصار، فقال مؤكدا لما لهم من الإنكار أو الأفعال التي هي فعل المنكر: {ولو} وعبر بالمضارع في قوله: {نشآء} ليتوقع في كل حين، فيكون أبلغ في التهديد.

{لطمسنا} وقصر الفعل إشارة إلى أن المعنى: لو نريد لأوقعنا الطمس الذي جعلناه على بصائرهم.

{على أعينهم} فأذهبنا عينها وأثرها، وجعلناها مساوية للوجه بحيث تصير كأنها لم تكن أصلاً، وقد تقدم في النساء نقل معنى هذا عن ابن هشام.

ولما كان الجالس مع شخص في مجلس التنازع وهو يهدده إن لم يرجع عن غيه بقارعة يصيبه بها، يبادر الهرب إذا فاجأته منه مصيبة كبيرة خوفاً من غيرها، جرياً مع الطبع لما ناله من الدهش، ومسه من عظيم الانزعاج والوجل، كما اتفق لقوم لوط عليه السلام لما مسح جبريل عليه السلام أعينهم فأغشاها حين بادروا الباب هراباً يقولون: عند لوط أسحر الناس، سبب عن ذلك قوله: {فاستبقوا} أي كلفوا أنفسهم ذلك وأوجدوه. ولما كان المقصود بيان إسراعهم في الهرب، عدى الفعل مضمناً له معنى {ابتدروا} كما قال تعالى:

{واستبقوا الخيرات} [البقرة: 148].

{الصراط} أي الطريق الواضح الذي ألفوه واعتادوه، ولهم به غاية المعرفة. ولما كان الأعمى لا يمكنه في مثل هذه الحالة المشي بلا قائد فضلاً عن المسابقة، سبب عن ذلك قوله منكراً: {فأنى} أي كيف ومن أين {يبصرون} أي فلم يهتدوا للصراط لعدم إبصارهم بل تصادموا فتساقطوا في المهالك وتهافتوا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

كذلك انتهى المشهد وألسنتهم معقودة وأيديهم تتكلم، وأرجلهم تشهد، على غير ما كانوا يعهدون من أمرهم وعلى غير ما كانوا ينتظرون. ولو شاء الله لفعل بهم غير ذلك، ولأجرى عليهم من البلاء ما يريد.. ويعرض هنا نوعين من هذا البلاء لو شاء الله لأخذ بهما من يشاء:

(ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط، فأنى يبصرون؛ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون)..

وهما مشهدان فيهما من البلاء قدر ما فيهما من السخرية والاستهزاء. السخرية بالمكذبين والاستهزاء بالمستهزئين، الذين كانوا يقولون: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟)..

فهم في المشهد الأول عميان مطموسون. ثم هم مع هذا العمى يستبقون الصراط ويتزاحمون على العبور، ويتخبطون تخبط العميان حين يتسابقون! ويتساقطون تساقط العميان حين يسارعون متنافسين! (فأنى يبصرون)

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {ويقولون متى هذا الوعد} [يس: 48].

وموقع هاتين الآيَتَين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة، كان ذلك مثيراً لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مِثل هذا الإِلجاء، فألجأهم إلى الإِقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته. فهو قد جعل نظام الدنيا جارياً على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها وآثارها وتوالداتِها، حتى إذا بَدَّل هذا العالم بعالم الحقيقة؛ أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة.

والمعنى أنّا ألجأناهم إلى الإِقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل، ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

الآيات على ما هو ظاهر متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتنديد وتنبيه، ولعلها انطوت على تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أيضا. حيث احتوت تقريرات ربانية بأن الله لو شاء لطمس على أعين الكفار، فلا يستطيعون أن يبصروا الصراط المستقيم ويسيروا فيه، أو لو شاء لمسخهم فبدّل من صورهم وأفقدهم قابلية الحركة والنشاط المعتادة؛ وأن في ما يرونه من آثار قدرة الله وناموسه في تبديل خلق الإنسان وقواه وإرجاعه حين شيخوخته إلى الضعف وسوء الحال لدليلا على ذلك لو عقلوا. والمتبادر لنا أنه أريد بما قررته الآيات تقرير كون الله لم يفعل بهم ذلك، إلا ليكون لهم من مواهبهم وحواسهم المعتادة التي زودهم بها، وسيلة للإدراك والتمييز والحركة والنشاط، حتى لا تضيع الفرصة عليهم ويستحقوا ما يستحقونه من المصير، عدلا وحقا إذ عطلوا ما زودهم الله به وأضاعوا الفرصة، ولم يسيروا في طريق الهدى والحق.

وينطوي في هذا إعذار وإنذار ربانيان للكفار، وحكمة ربانية سامية مستمرة الإلهام والتلقين: وهي الدعوة إلى الانتفاع بالمواهب التي أودعها الله في الناس بالاستدلال على سبيل الحق والهدى والخير والسير فيها وعدم تعطيلها.