41- شأن المبطلين الموالين لغير الله في الضعف والوهن والاعتماد على غير معتمد ؛ كشأن العنكبوت في اتخاذها بيتاً تحتمي به ، وبيتها أوهى البيوت وأبعد عن الصلاحية للاحتماء ، ولو كان هؤلاء المبطلون أهل علم وفطنة لما فعلوا ذلك{[171]} .
ثم ضرب الله مثلا ، لمن يتخذ آلهة من دونه : وتوعد من يفعل ذلك بأشد أنواع العذاب ، فقال - تعالى - { مَثَلُ الذين اتخذوا . . . إِلاَّ العالمون } .
والمثَل والمِثْل : النظير والشبيه ، ثم أطلق المثل على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده - وهو الذى ورد فيه أولا - ولا يكون إلا فيما فيه غرابة - ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة ، إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة . وعلى هذا المعنى يحمل المثل هنا .
وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى ، وتقريب الشئ المعقول من الشئ المحسوس ، وعرض الغائب فى صورة الحاضر ، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل ، أوقع فى القلوب ، وأثبت فى النفوس .
والعنكبوت : حشرت معروفة ، تنسج لنفسها فى الهواء بيتا رقيقا ضعيفا ، لا يغنى عنا شيئا ، وتطلق هذه الكلمة على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والغالب فى استعمالها التأنيث . والواو والتاء زائدتان ، كما فى لفظ طاغوت .
والمعنى : حال هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله - تعالى - أصناماً يعبدونها ، ويرجون نفعها وشفاعتها . . كحال العنكبوت فى اتخاذها بيتاً ضعيفاً مهلهلاً ، لا ينفعها لا فى الحر ولا فى القر ، ولا يدفع عنها شيئاً من الأذى .
فالمقصود من المثل تجهيل المشركين وتقريعهم ، حيث عبدوا من دون الله - تعالى - آلهة ، هى فى ضعفها ووهنا تشبه بيت العنكبوت ، وأنهم لو كانوا من ذوى العلم لما عبدوا تلك الآلهة .
قال صاحب الكشاف : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومتعمداً فى دينهم ، وتولوه من دون الله ، بما هو مثل عند الناس فى الوهن وضعف القوة . وهو نسج العنكبوت . ألا ترى غلى مقطع التشبيه ، وهو قوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } .
فإن قلت : ما معنى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت ؟ قلت : معناه ، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . .
وقال الآلوسى : قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى : لو كانوا يعلمون شيئاً من الأشياء ، لعلموا أن هذا مثلهم ، أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . و " لو " شرطية ، وجوابها محذوف ، وجوز بعضهم كونها لللتمنى فى جواب لها ، وهو غير ظاهر .
والآن . وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن . وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . . إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله . وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن ، من تعلق به أو احتمى ، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية . فهي وما تحتمي به سواء :
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهوالعزيز الحكيم . وتلك الأمثال نضربها للناس ، وما يعقلها إلا العالمون . .
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود . الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا ، فيسوء تقديرهم لجميع القيم ، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات ، وتختل في أيديهم جميع الموازين . ولا يعرفون إلى أين يتوجهون . ماذا يأخذون وماذا يدعون ?
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض ، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم ، ويخشونها ويفزعون منها ، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها ، أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
وتخدعهم قوة المال ، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال ، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول ، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة . تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول ، فيدورون حولها ، ويتهافتون عليها ، كما يدور الفراش على المصباح ، وكما يتهافت الفراش على النار !
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة ، وتملكها ، وتمنحها ، وتوجهها ، وتسخرها كما تريد ، حيثما تريد . وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد ، أو الجماعات ، أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو ، ولا وقاية لها من بيتها الواهن .
وليس هنالك إلا حماية الله ، وإلا حماه ، وإلا ركنه القوي الركين .
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة ، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ؛ وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .
لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس ، وعمرت كل قلب ، واختلطت بالدم ، وجرت معه في العروق ، ولم تعد كملة تقال باللسان ، ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس ، لا يجول غيرها في حس ولا خيال .
قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ؛ مهما علا واستطال ، ومهما تجبر وطغى ، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
إنها العنكبوت : وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت : ( وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى ، وللإغراء والإغواء . لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة ، وهم يواجهون القوى المختلفة . هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . . وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله ، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة ، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، يرجون نصرهم ورزقهم ، ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه{[22591]} فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه شيئا ، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله ، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك{[22592]} بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، لقوتها وثباتها .
ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به : إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ، ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مثل الذين اتخذوا الاَلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم ، وقبح رواياتهم ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، كمَثلِ العنكبوت في ضعفها ، وقلة احتيالها لنفسها ، اتخذت بيتا لنفسها ، كيما يُكِنّها ، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه ، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله ، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا ، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياءَ كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتا . . . إلى آخر الاَية ، قال : ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره ، إن مثله كمثل بيت العنكبوت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلياءَ كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ قال : هذا مثل ضربه الله للمشرك مثَلُ إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياء كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتا قال : هذا مثل ضربه الله ، لا يغني أولياؤهم عنهم شيئا كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا .
وقوله : وإنّ أوْهَنَ البُيُوتِ يقول : وإن أضعف البيوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، يعلمون أن أولياءهم الذين اتخذوهم من دون الله في قلة غنائهم عنهم ، كغناء بيت العنكبوت عنها ، ولكنهم يجهلون ذلك ، فيحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى .
شبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ب { العنكبوت } التي تبني وتجتهد وأمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة أذهبته فكذلك أمر أولئك وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد ، ومن حديث ذكره النقاش «العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه »{[9254]} ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر » ، وقوله { لو كانوا يعلمون } ، أي { يعلمون } أن هذا مثلهم وأن حالهم ونسبتهم من الحق هذه الحال{[9255]} .
لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعاً عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه ، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتاً تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق . والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش ، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب ، والقرينة قوله بعده { إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء } [ العنكبوت : 42 ] فضمير { اتخذوا } عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهم مشركو قريش .
وجملة { اتخذت بيتاً } حال من { العنكبوت } وهي قيد في التشبيه . وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه ، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك ، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم . وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريباً عند قوله { وتلك الأمثال نضربها للناس } في هذه السورة( 43 ) .
و { العنكبوت } : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف ، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب ، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجاً تنسجه من لُعابها يكون خيوطاً مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران ، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانباً أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرّخ فيه . وسمي بيتاً لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر .
وجملة { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } معترضة مبينة وجه الشبه . وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف .
وجملة { لو كانوا يعلمون } متصلة بجملة { كمثل العنكبوت } لا بجملة { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } . فتقدير جواب { لو } هكذا : لو كانوا يعلمون أن ذلك مثَلُهم ، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم . وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء} يعني الآلهة، وهي الأصنام اللات والعزى ومناة وهبل... {كمثل العنكبوت} وذلك أن الله عز وجل ضرب مثل الصنم في الضعف، يعني كشبه العنكبوت إذا {اتخذت بيتا وإن أوهن} يعني أضعف {البيوت} كلها {لبيت العنكبوت} فكذلك ضعف الصنم هو أضعف من بيت العنكبوت {لو} يعني إن {كانوا يعلمون} ولكن لا يعلمون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم، وقبح رواياتهم، وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمَثلِ العنكبوت في ضعفها، وقلة احتيالها لنفسها، اتخذت بيتا لنفسها، كيما يُكِنّها، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم... وقوله:"وإنّ أوْهَنَ البُيُوتِ" يقول: وإن أضعف البيوت "لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ "يقول تعالى ذكره: لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء، يعلمون أن أولياءهم الذين اتخذوهم من دون الله في قلة غنائهم عنهم، كغناء بيت العنكبوت عنها، ولكنهم يجهلون ذلك، فيحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... بل في بيت العنكبوت للعنكبوت شيء من المنفعة، وليس لأولئك العبدة بتلك الأصنام شيء، مما كانوا يأملون؛ فهي دون بيت العنكبوت في المنفعة...
لكنه، والله أعلم، ضرب مثلها ببيت العنكبوت لما لا شيء أوهن وأضعف عند الخلق من بيتها. وهو ما شبه أعمال الكفرة برماد {اشتدت به الريح} [إبراهيم: 18] وبسراب {بقيعة} [النور: 39] لما ليس شيء أضيع ولا أبعد في الوجود والقدرة عليه في الوهم مما ذكر، فشبه أعمالهم به. فعلى ذلك تشبيه أولئك الأصنام آلهة وأولياء من دون الله ببيت العنكبوت، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاتخاذ: أخذ الشيء على إعداده لنائبة... فلما أخذوا عبادة غير الله إعدادا لنائبة، كانوا اتخذوا الأولياء من دون الله، وذلك فاسد لأن عبادة الله هي العاصمة من المكاره دون عبادة الأوثان. والمولى هو المتولي للنصرة، وهو أبلغ من الناصر، لأن الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة، والولي هو الذي يتولى فعلها بنفسه...
(لو) متعلقة بقوله "اتخذوا "أي لو علموا أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا سخيفا لم يتخذوهم أولياء، ولا يجوز أن تكون متعلقة بقوله "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" لأنهم كانوا عالمين بأن بيت العنكبوت واه ضعيف.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
العنكبوت يتخذ لنفسه بيتاً، ولكن كلما زاد نسجاً في بيته ازداد بُعْداً في الخروج منه؛ فهو يبني ولكن على نفسه يبني... كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجني. وبيتُ العنكبوتِ أكثره في الزوايا من الجدران، كذلك الكافر أمره على التّقِيّةِ والكتمان، وأمَّا المؤمِن فظاهِرُ المعاملةِ، لا ستر ولا يُدَخْمِس. وبيتُ العنكبوت أوهنُ البيوت لأنه بلا أساسٍ ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أَدْوَن دَفْع.. كذلك الكافر؛ لا أصلَ لشأنه، ولا أساسَ لبنيانه، يرى شيئاً ولكن بالتخييل، فأمَّاً في التحقيق.. فَلاَ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان "لو كانوا يعلمون".
... وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل:...
المسألة الأولى: ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال؟ فنقول فيه وجوه؛
الأول: أن البيت ينبغي أن يكون له أمور: حائط حائل، وسقف مظل، وباب يغلق، وأمور ينتفع بها ويرتفق، وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين؛ إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت، لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع، فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء.
الثاني: هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنار والتراب، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب، إن كان لا يدفع شيئا، يظل ويدفع حر الشمس، لكن بيت العنكبوت لا يظل، فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد، فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه، لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه.
الثالث: أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت، فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب، فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب...
المسألة الثانية: مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتا ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين؛
أحدهما: أن نسجه فيه فائدة له، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت.
الوجه الثاني: هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتا أمر باطل، فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتا وكلاهما باطل...
المسألة الثالثة: كما أن هذا المثل صحيح في الأول فهو صحيح في الآخر، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}...
المسألة الرابعة: قال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء} ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا، فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ وليا غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتا...
ثم قال تعالى: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}. إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر فكذلك عملهم لو كانوا يعلمون...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
... وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلاً ومعتمداً آلهة كان ذلك أو غيرها، ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم {كَمَثَلِ العنكبوت} أي كصفتها أو شبهها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة، وبيتها من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا، كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء، فقراء عاجزون من جميع الوجوه، وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم، ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم، ووهنا إلى وهنهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن، وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون.. والآن. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء.. الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال.. إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله. وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية...
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ماذا يأخذون وماذا يدعون؟ وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون! وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب! وتخدعهم هذه القوى الظاهرة. تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار! وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد. وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول.. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت... حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن. وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين. هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها؛ وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون...
قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل؛ مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل. إنها العنكبوت: وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون). وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة. هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم.. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعاً عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتاً تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق. والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب، والقرينة قوله بعده {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء} [العنكبوت: 42] فضمير {اتخذوا} عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهم مشركو قريش.