قوله تعالى : { تنزع الناس } تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم . وروي أنها كانت تنزع الناس من قبورهم ، { كأنهم أعجاز نخل } قال ابن عباس : أصولها ، وقال الضحاك : أوراك نخل . { منقعر } منقلع من مكانه ، ساقط على الأرض . وواحد الأعجاز عجز ، مثل عضد وأعضاد وإنما قال : ( أعجاز نخل ) وهي أصولها التي قطعت فرعها ، لأن الريح كانت تبين رؤوسهم من أجسادهم بلا رؤوس .
وقوله : { تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } بيان لقوة هذه الريح وشدتها .
والنزع : الإزالة للشىء بعنف ، حتى يزول عن آخره ، وينفصل عما كان متصلا به .
والمراد بالناس : هؤلاء المهلكين من قوم هود - عليه السلام - .
والأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشىء وأسفله . وأعجاز النخل : أصولها التى تقوم عليها . والمارد بها هنا : النخل بتمامه ما عدا الفروع .
وقوله : { مُّنقَعِرٍ } اسم فاعل انقعر ، مطاوع قَعَره أى : بلغ قعره بالحفر ، يقال : قعر فلان البئر إذا بلغ قعرها فى الحفر ، وهو صفة للنخل . أى : أن الريح لشدتها وقوتها ، كانت تقتلعهم من أماكنهم ، وتلقى بهم بعيدا وهم صرعى ، فكأهم وهم ممددون على الأرض هلكى ، أعجاز نخل قد انقلع عن أصوله ، وسقط على الأرض . .
قال ابن كثير : وذلك أن الريح كانت تأتى أحدهم ، فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار .
ثم تنكسه على أم رأسه ، فيسقط على الأرض ، فتنخلع رأسه فيبقى جثة بلا رأس ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } .
فالآية الكريمة فيها ما فيها من التفظيع لما أصابهم من هلاك واستئصال .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب :
( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر . تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) . . والريح الصرصر : الباردة العنيفة . وجرس اللفظ يصور نوع الريح . والنحس : الشؤم . وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد . والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم . فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها ? !
والمشهد مفزع مخيف ، وعاصف عنيف . والريح التي أرسلت على عاد " هي من جند الله " وهي قوة من قوى هذا الكون ، من خلق الله ، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره ؛ وهو يسلطها على من يشاء ، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس ، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني ، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله . صاحب الأمر وصاحب الناموس :
وقوله : { تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه ، فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
وقوله : تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُمْ أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ يقول : تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم ، فتندقّ رقابهم ، وتبين من أجسامهم . كما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة شمَاليّا ، منهم ستة من أشدّ عاد وأجسمها ، منهم عمرو بن الحُلَيّ والحارث بن شداد والهلقام وابنا تيقن وخَلَجان بن أسعد ، فأدلجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن بالشّعب من العِيال ، فجعلت الريح تخفِقُهم رجلاً رجلاً ، فقالت امرأة من عاد :
ذَهَبَ الدّهْرُ بَعَمْرِو بْ *** نِ حُلَيَ والهَنِيّاتِ
ثُمّ بالحارِثِ والهِلْ *** قامِ طَلاّعِ الثّنِيّاتِ
وَالّذِي سَدّ عَلَيْنا الرّي *** حَ أيّامَ البَلِيّاتِ
حدثنا العباس بن الوليد البيروتيّ ، قال : أخبرني أبي ، قال : ثني إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن إسحاق قال : لما هبّت الريح قام سبعة من عاد ، فقالوا : نردّ الريح ، فأتوا فم الشعب الذي يأتي منه الريح ، فوقفوا عليه ، فجعلت الريح تهبّ ، فتدخل تحت واحد واحد ، فتقتلعه من الأرض فترمي به على رأسه ، فتندقّ رقبته ، ففعلت ذلك بستة منهم ، وتركتهم كما قال الله : أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ وبقي الخَلَجان فأتى هودا فقال : يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتيّ ؟ قال : تلك ملائكة ربي ، قال : مالي إن أسلمت ؟ قال : تَسْلَم ، قال : أيُقيدني ربك إن أسلمت من هؤلاء ؟ فقال : ويلك أرأيت مَلكا يقيد جنوده ؟ فقال : وعزّته لو فعل ما رضيت . قال : ثم مال إلى جانب الجبل ، فأخذ بركن منه فهزّه ، فاهتزّ في يده ، ثم جعل يقول :
لَمْ يَبْقَ إلاّ الخَلَجانُ نَفْسُهُ *** يا لَكَ مِنْ يَوْمٍ دَهانِي أمْسُهُ
بِثابِتِ الوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُ *** لَوْ لَمْ يَجِئْنِي جِئْتُهُ أحُسّهُ
قال : ثم هبت الريح فألحقته بأصحابه .
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا محمد بن سيف ، عن الحسن ، قال : لما أقبلت الريح قام إليها قوم عاد ، فأخذ بعضهم بأيدي بعض كما تفعل الأعاجم ، وغمزوا أقدامهم في الأرض وقالوا : يا هود من يزيل أقدامنا عن الأرض إن كنت صادقا ، فأرسل الله عليهم الريح فصيرتهم كأنهم أعجاز نخل مُنْقَعِر .
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا أشعث بن جابر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة ، لو اجتمع عليها خمس مئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوها ، وإن كان الرجل منهم ليغمز قدمه في الأرض ، فتدخل في الأرض ، وقال : كأنهم أعجاز نخل ومعنى الكلام : فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ، فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة الكلام عليه . وقيل : إنما شبههم بأعجاز نخل منقعر ، لأن رؤوسهم كانت تبين من أجسامهم ، فتذهب لذلك رِقابهم ، وتبقى أجسادهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن هلال بن خباب ، عن مجاهد ، في قوله : كأنّهُمْ أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال : سقطت رؤوسهم كأمثال الأخبية ، وتفرّدت ، أو وتَفَرّقت أعناقهم «قال أبو جعفر : أنا أشك » ، فشبهها بأعجاز نخلٍ منقعر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال : هم قوم عاد حين صرعتهم الريح ، فكأنهم فِلَق نخل منقعر فَكَيْفَ كانَ عَذَابي وَنُذُرِ يقول تعالى ذكره : فانظروا يا معشر كفار قريش ، كيف كان عذابي قوم عاد ، إذ كفروا بربهم ، وكذّبوا رسوله ، فإن ذلك سنة الله في أمثالهم ، وكيف كان إنذاري بهم مَنْ أنذرت .
{ تنزع الناس } تقلعهم ، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى . { كأنهم أعجاز نخل منقعر } أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض . وقيل شبهوا بالإعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم ، وتذكير { منقعر } للحمل على اللفظ ، والتأنيث في قوله { أعجاز نخل خاوية } للمعنى .
والنزع : الإِزالة بعُنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلاً به ، ومنه نزع الثياب .
والأعجاز جمع عَجُز : وهو أسفل الشيء ، وشاع إطلاق العَجُز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض .
وأطلقت الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض .
وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحاتّ ورقها فلا تبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازاً .
و { منقعر } : اسم فاعل انقعر مطاوع قَعره ، أي بلغ قَعْره بالحفر يقال : قَعَرَ البئرَ إذا انتهى إلى عمقها ، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعُود النخل إذا طال مكثه مطروحاً .
ومنقعر : وصف النخل ، روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافاً لما في قوله تعالى : { كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] وقوله : { والنخل ذات الأكمام } [ الرحمن : 11 ]
قال القرطبي : « قال أبو بكر ابن الأنباري سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي{[403]} عن ألف مسألة من جملتها ، قيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : { ولسليمان الريح عاصفة } [ الأنبياء : 81 ] و { جاءتها ريح عاصف } [ يونس : 22 ] وقوله : { أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] و { أعجاز نخل منقعر } ؟ فقال كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً » اهـ .
وجملة { كأنهم أعجاز نخل منقعر } في موضع الحال من { الناس } ووجه الوصف ب { منقعر } الإِشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعاً تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم وأفئدتهم فصاروا جثثاً فُرغا . وهذا تفظيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم .