قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } . قال مقاتل : إن رؤوس اليهود عمدوا إلى من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، فآذوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية لن يضروكم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذى باللسان وعيداً وطغياناً وقيل كلمة كفر تتأذون بها .
ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين ، بأن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التى عتت عن أمر ربها وناصبت المؤمنين العداء ، لن تضرهم ضررا بليغا له أثر ما دام أهل الإيمان مستمسكين بدينهم ومنفذين لتعاليمه وآدابه ، فقال - سبحانه - { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أى " لن يضركم أهل الكتاب يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا ، كأن يؤذوكم بألسنتهم ويلقوا الشبه بينكم ليصدوا من ضعف إيمانه عن الحق ، وفى هذا تثبيت للمؤمنين ، وطمأنينة لقلوبهم ، إذ الضرر الذى يصيب الأمة الإسلامية من أعدائها على قسمين :
أولهما : ضرر يؤدى إلى هدم كيان الأمة ، وإضعاف قوتها وإهدار كرامتها وجعل أمورها فى أيدى أعدائها تصرفها كيف تشاء .
وثانيهما : ضرر لا يؤثر فى كيان الأمة ، ولا يؤدى إلى اضمحلال قوتها كالأذى بالقول ، أو محاولة التأثير فى ضعاف الإيمان .
وقد نفى - سبحانه - أن يلحق المؤمنين ضرر يأتى على كيانهم من جهة أهل الكتاب فقال : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } فأوقع الفعل المضارع فى حيز لن المفيدة للنفى - للإشارة إلى أن ذلك لا يكون فى المستقبل .
ولكن هذا النفى لهذا النوع من الضرر مشروط بمحافظة الأمة الإسلامية على الأصلين السابقين وهما " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله " .
فإذا أرادت أمة الإسلام ألا تصاب من جهة أهل الكتاب بما يأتى على كيانها ، فعليها أن تخلص العبادة لربها ، وأن تعمل بسنة نبيها ، وأن تتقيد بأحكام كتابها ، وأن تباشر الأسباب التى شرعها خالقها للنصر على أعدائها .
أما إذا تركت أمة الإسلام ما أمرها الله - تعالى - به وتجاوزت ما نهاها عنه فإنها فى هذه الحالة قد تصاب من أعدائها بما يؤثر فى كيانها وتكون هي الجانية على نفسها بمخالفتها لأوامر الله ونواهيه .
هذا ، وأكثر العلماء على أن الاستثناء فى قوله { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } متصل وأنه استثناء مفرغ من المصدر العام كأنه قيل : لن يضروكم ضررا ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به من كلمة سوء و نحوها .
وقيل هو استثناء منقطع لأن الأذى ليس من الضرر : أى لن يضروكم بقتال وغلبة لكن بكلمة أذى ونحوها .
ورجح الأول ، لأن الكلام إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقى لم يجز صرفه عن ذلك إلى الاستثناء المنقطع وهنا الأذى مهما قل هو نوع من الضرر وإن لم يترك أثراً .
ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين ببشارة أخرى فقال : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } .
تولية الأدبار : كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يحول ظهره ودبره إلى جهة الذى هزمه هربا إلى ملجأ يلجأ إليه ليدفع عن نفسه أو الأسر .
والمعنى ، إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيراً لا يبقى أثره فيكم - ما دمتم مستمسكين بدينكم - ، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال ، أمدكم الله بنصره ، والقى في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزاما منكم ، ثم لا ينصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم .
والتعبير عن الهزيمة بتولية الأدبار ، فيه إشارة إلى جبنهم وأنهم يفرون فرارا شديدا بذعر وهلع .
وهكذا كان الشأن فى قتال المسلمين الأولين لأعداء الله وأعدائهم ، فلقد قاتل المؤمنون اليهود من بنى قيناع والنضير وقريظة وأهل خيبر فانتصر المسلمون عليهم انتصاراً باهراً .
وقاتلوا جموع الروم فى بلاد الشام وفى مصر ، فكان النصر المؤزر حليفا للمسلمين مع قلتهم وكثرة أعدائهم .
وقوله { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } احتراس . أى : يولونكم الأدبار تولية المنهزم ، لا تولية المتحرف لقتال أو المتحيز إلى فئة أو المتأمل فى الأمر .
والتعبير ب { ثُمَّ } لإفادة التراخى فى المرتبة : لأن الإخبار بتسليط الخذلفان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار .
وهذه الجملة خبرية وهى معطوفة على جملتى الشرط وجزائه معا ، للإشعار بأن هذا ديدنهم ، وأنهم لن ينتصروا على المسلمين لا فى قتال ولا فى غيره ، ما دام المسلمون مستقيمين على الطريقة التى رسمها الله - تعالى - لهم .
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : هلا جزم المعطوف فى قوله { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؟ قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فأى فرق بين رفعه وجزمه فى المعنى ؟ قلت لو جزم لكان النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا كأنه قال . ثم شأنهم وقصتهم التى أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر فإن قلت : فما الذى عطف عليه هذا الخبر ؟ قتل : جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون . فإن قلت فما معنى التراخى فى ثم ؟ قلت : التراخى فى المرتبة ، لأن الاخبار بتلسيط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار فإن قلت : ما موقع الجملتين ، أعنى { مِّنْهُمُ المؤمنون } و { لَن يَضُرُّوكُمْ } قلت هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاءا من غير عطف " .
فأنت ترى الآية الكريمة قد بشرت المؤمنين الصادقين ببشارات ثلاث :
أولها : أنهم فى مأمن من الضرر البليغ الذى يؤثر فى كيانهم وعزتهم وكرامتهم من جهة أهل الكتاب .
ثانيها : أن أهل الكتاب لو قاتلوهم ، فإن المؤمنين سيكون لهم النصر عليهم .
ثالثها : أنهم بعد نصرهم عليهم لن تكون لأهل الكتاب - وعلى رأسهم اليهود - شوكة أو قوة للأخذ بثأرهم بعد ذلك .
وقد تحققت هذه البشارات ، وكانت كما أخبر الله - تعالى - فإن المسلمين الأولين الذين كانوا متمسكين بتعاليم دنيهم نصرهم الله - تعالى - على أهل الكتاب وعلى غيرهم من أعدائهم نصرا مؤزرا - كما سبق أن أشرنا - .
فإن قال قائل : ولكن الذى نراه الآن أن اليهود الذين لا يمارى أحد فى جبنهم وفى حرصهم على الحياة قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة فى بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهى فلسطين فهل يخلف وعد الله ؟
والجواب على ذلك . أن وعد الله - تعالى - لا يخلف ولن يتخلف وقد حققه - سبحانه - لأسلافنا الصالحين الذى آمنوا به حق الإيمان . ولكن المسلمين فى هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم ، فقد فرطوا فى دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعاً وأحزاباً وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التى شرعها الله - تعالى - لبلوغ النصر ، ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية .
فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر ، ومن القوة إلى الضعف .
وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم ، لأنه - سبحانه - { لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وإذا ما عاد المسلمون إلى دينهم فطبقوا أوامره ونواهيه على أنفسهم تطبيقا كاملا ، فإن الله - تعالى - سيعيد لهم كرامتهم وعزتهم وقوتهم { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ومن هنا نعلم أ ، الشرط فى نفى الذى يؤثر فى نفى الضرر الذى يؤثر فى الأمة الإسلامية ، هو أن تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة ، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة : عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين ، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين ، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم ، وتفرقهم شيعا وفرقا ، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة .
( لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ، ثم لا ينصرون ، ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة ، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء ، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين :
( لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) . .
فلن يكون ضررا عميقا ولا أصيلا يتناول أصل الدعوة ، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة ، ولن يجليها من الأرض . . إنما هو الأذى العارض في الصدام ، والألم الذاهب مع الأيام . . فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال ، فالهزيمة مكتوبة عليهم - في النهاية - والنصر ليس لهم على المؤمنين ، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين . .
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين ، فقال : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع ، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم{[5563]} وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة{[5564]} كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ]{[5565]} وهم كذلك ، ويحكم ، عليه السلام{[5566]} بشرع محمد{[5567]} عليه أفضل الصلاة والسلام{[5568]} فيَكْسر الصَّلِيب ، ويقتل الخنزير ، ويَضَع الجزْية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
{ لَن يَضُرّوكُمْ إِلاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدُبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لن يضركم يا أهل الإيمان بالله ورسوله ، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم ، وتكذيبهم نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أذى ، يعني بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم ، وإسماعكم كفرهم ، وقولهم في عيسى وأمه وعزير ، ودعائهم إياكم إلى الضلالة ، ولا يضرّونكم بذلك ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، الذي هو مخالف معنى ما قبله ، كما قيل ما اشتكى شيئا إلا خيرا ، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكمْ إلاّ أذًى } يقول : لن يضرّوكم إلا أذى تسمعونه منهم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } قال : أذى تسمعونه منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } قال : إشراكهم في عُزَير وعيسى والصليب .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } . . . الاَية ، قال : تسمعون منهم كذبا على الله ، يدعونكم إلى الضلالة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن يقاتلكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يهزموا عنكم ، فيولوكم أدبارهم انهزاما ، فقوله : { يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ } كناية عن انهزامهم ، لأن المنهزم يحوّل ظهره إلى جهة الطالب هربا إلى ملجأ ، وموئل يئل إليه منه ، خوفا على نفسه ، والطالب في أثره ، فدبر المطلوب حينئذٍ يكون محاذي وجه الطالب الهازمة . { ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } يعني : ثم لا ينصرهم الله أيها المؤمنون عليكم لكفرهم بالله ورسوله ، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله عزّ وجلّ قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم أيها المؤمنون بنصركم . وهذا وعد من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان نصرهم على الكفرة من أهل الكتاب . وإنما رفع قوله : { ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } وقد جزم قوله : { يُوَلّوكم الأدْبارَ } على جواب الجزاء ائتنافا للكلام ، لأن رءوس الاَيات قبلها بالنون ، فألحق هذه بها ، قال : { وَلا يُؤذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } رفعا ، وقد قال في موضع آخر : { لا يُقْضَى علَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } إذ لم يكن رأس آية .
{ لن يضروكم إلا أذى } ضررا يسيرا كطعن وتهديد . { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر . { ثم لا ينصرون } ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم ، نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم ، ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخذلان . وقرئ " لا ينصروا " عطفا على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيدا بقتالهم ، وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } معناه : لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال ، وإنما هو أذى بالألسنة ، فالاستثناء متصل ، وقال الحسن ، وقتادة وغيرهما : «الأذى » هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه .
قال القاضي أبو محمد : وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً ، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء ، وضرب الجزية ، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه ، وهكذا هي فصاحة العرب ، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال{[3424]} : يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت ، فقوله : ذا دم ، روي بالذال منقوطة ، وبالدال غير منقوطة ، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام ، وأما الدال غير المنقوطة ، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه ، وذلك بأحد وجهين : إما أن يريد الوعيد ، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك ، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه ، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك ، فهذا استعطاف لا وعيد ، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي ، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى ، ويحتمل كلام ثمامة ، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم ، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود : وهل أعمد{[3425]} من رجل قتلتموه ؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز ، حين قال له : لأقتلنك ، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر{[3426]} شيئاً فكأن ثمامة أراد : إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه ، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيهاً لهم ، وأخبر الله تعالى في قوله : { وإن يقاتلوكم } الآية ، بخبر غيب صححه الوجود ، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم ، وفائدة الخبر هي في قوله : { ثم لا ينصرون } أي لا تكون حربهم معكم سجالاً{[3427]} وخص { الأدبار } بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ ، وهكذا هو حيث تصرف .
قوله : { ضربت } معناه : أثبتت بشدة والتزام مؤكد ، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام ، قال الحسن : جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم{[3428]} الجزية ، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام ، ولم تبق لهم راية أصلاً في الأرض ، و { الذلة } فعلة من الذل { ثقفوا } معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك ، ومنه قوله تعالى : { فإما تثقفنهم في الحرب }{[3429]} { فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم }{[3430]} واللفظة مأخوذة من الثقاف ، ومنه قول الشاعر :
تدعو ثقيفاً وَقَدْ عَضَّ الحديدُ بها . . . عضَّ الثّقافِ على صُمّ الأنابيبِ{[3431]}
وقوله تعالى : { إلا بحبل } استثناء منقطع ، وهو نظير قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً }{[3432]} لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئاً ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما الكلام محذوف ، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت { إلا بحبل } .
استئناف نشأ عن قوله { وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] لأن الإخبار عن أكثرهم بأنَّهم غير مؤمنين يؤذن بمعادَاتهم للمؤمنين ، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم ، وهذا يختصّ باليهود ، فإنَّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر ، والنضير ، وقينقاع ، وقريظة ، وكانوا أهل مكر ، وقوة ، ومال ، عُدّة ، والمسلمون يومئذٍ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنَّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب ، ولا يخشون ضُرّهم ، لكن أذاهُم .
أمَّا النصّارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتَّى يخشوهم . والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الَّذي هو الألم ، وقد قيل : هو الضرّ بالقول ، فيكون كقول إسحاق بن خلف :
أخشىَ فَظاظة عمّ أو جَفاء أخٍ *** وكُنتُ أبقى عليها من أذى الكَلِم
ومعنى { يولّوكم الأدبار } يفرّون منهزمين .
وقوله { ثم لا ينصرون } احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة ، أو متأمّلين في الأمر . وفي العدول عن جعله معطوفاً على جملة الجواب إلى جعله معطوفاً على جملتي الشرط وجزائه معاً ، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم . لو قاتلوكم ، وكذلك في قتالهم غيركم .
وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة . ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام . وهو غير التّراخي المجازي ، لأن التّراخي المجازي أن يشبَّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه .
وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين ، وأنّهم ينهزمون ، وإغراء للمسلمين بقتالهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: لن يضركم يا أهل الإيمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم، وتكذيبهم نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أذى، يعني بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولا يضرّونكم بذلك...
{وَإنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن يقاتلكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يهزموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزاما، فقوله: {يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ} كناية عن انهزامهم، لأن المنهزم يحوّل ظهره إلى جهة الطالب هربا إلى ملجأ، وموئل يئل إليه منه، خوفا على نفسه، والطالب في أثره، فدبر المطلوب حينئذٍ يكون محاذي وجه الطالب الهازمة. {ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} يعني: ثم لا ينصرهم الله أيها المؤمنون عليكم لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الله عزّ وجلّ قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم أيها المؤمنون بنصركم. وهذا وعد من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان نصرهم على الكفرة من أهل الكتاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والأمن لهم من عذاب المشركين وضررهم إلا أذى باللسان، وهو كقوله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 186] وقوله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} الآية {الحشر: 12] ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على عدوهم. وفي قوله: {لن يضروكم إلا أذى} الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر، فدل أنه إنما علم ذلك بالله جل وعلا...
فيه الدلالة على صحة نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالي المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر، فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرّونهم إلا أذًى من جهة القول، وأنهم متى قاتلوهم ولّوا الأدبار؛ فكان كما أخبر، وذلك من علم الغيب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، اتصال البشارة بالغلبة بما تقدم من الأمر بالمحاربة، لأنه قد تقدم الأمر بإنكار المنكر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسلط على أوليائه إلا بمقدار ما يصدق إلى الله فرارهم، فإذا حق فرارهم أكرم لديه قرارهم، وإن استطالوا على الأولياء بموجب حسبانهم انعكس الحال عليهم بالصغار والهوان...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك {وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار} منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت لمن أسلم منهم، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}؟ قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت: لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم، كتولية الأدبار. وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فما معنى التراخي في ثمَّ؟ قلت: التراخي في المرتبة لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل...
قال القاضي أبو محمد: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه...
وأخبر الله تعالى في قوله: {وإن يقاتلوكم} الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: {ثم لا ينصرون} أي لا تكون حربهم معكم سجالاً وخص {الأدبار} بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف...
اعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله {كنتم خير أمة} رغبهم فيه من وجه آخر، وهو أنهم لا قدرة لهم على الإضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100]...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وهكذا وقع، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [عليه السلام] وهم كذلك، ويحكم، عليه السلام بشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويَضَع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت مخالفة الأكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله: {لن يضروكم} ولما كان الضر- كما تقدم عن الحرالي -إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحوال، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام، ثم استثنى منه فقال: {إلا أذى} أي بألسنتهم، وعبر بذلك لتصوير مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة {وإن يقاتلوكم} أي يوماً من الأيام {يولوكم} صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب {الأدبار} أي انهزاماً ذلاً وجبناً. ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال- عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم -: {ثم لا ينصرون} أي لا يكون لهم ناصر من غيرهم أبداً وإن طال المدى، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً! لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) تولية الأدبار كناية عن الانهزام لأن المنهزم يحول ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره في هربه منه، فيكون دبره أي قفاه إلى جهة وجه من انهزم هو منه. (ثم لا ينصرون) عليكم بعد ذلك، أو ثم إنهم لا ينصرون عليكم قط ماداموا على فسقهم ودمتم على خيريتكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة: عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم، وتفرقهم شيعا وفرقا، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة...
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين: (لن يضروكم إلا أذى. وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون).. فلن يكون ضررا عميقا ولا أصيلا يتناول أصل الدعوة، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة، ولن يجليها من الأرض.. إنما هو الأذى العارض في الصدام، والألم الذاهب مع الأيام.. فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال، فالهزيمة مكتوبة عليهم -في النهاية- والنصر ليس لهم على المؤمنين، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف نشأ عن قوله {وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] لأن الإخبار عن أكثرهم بأنَّهم غير مؤمنين يؤذن بمعادَاتهم للمؤمنين، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم، وهذا يختصّ باليهود، فإنَّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر، والنضير، وقينقاع، وقريظة، وكانوا أهل مكر، وقوة، ومال، عُدّة، والمسلمون يومئذٍ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنَّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب، ولا يخشون ضُرّهم، لكن أذاهُم. أمَّا النصّارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتَّى يخشوهم. والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الَّذي هو الألم...
ومعنى {يولّوكم الأدبار} يفرّون منهزمين. وقوله {ثم لا ينصرون} احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة، أو متأمّلين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفاً على جملة الجواب إلى جعله معطوفاً على جملتي الشرط وجزائه معاً، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم. لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم. وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام...
وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنّهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص الكريم بيان أن الذين أوتوا الكتاب، ثم كفروا به وبالبينات لما جاءتهم، لن يضروا المؤمنين ضررا يبقي أثرا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، وإن وقع منهم أذى؛ وذلك لأن الضرر قسمان: ضرر يترك أثرا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها. وضرر لا أثر له:كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، أو محاولة بث روح النفاق بين الجماعة من غير أن يعم ويشيع، وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيا مؤكدا بلفظ {لن}، فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة... وإن الشرط في نفي الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية أن تكون مؤمنة بالله حق الإيمان، آخذة بتعاليمه ومهتدية بهديه، وأن يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها؛ لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها...
{وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}... التعبير عن الهزيمة بتوليتهم الأدبار؛ فيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارا أمام خصومهم...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 110]
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه...
إن [قوله تعالى] {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} قضية دائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول الله فقط، ولكنها ستظل إلى أبد الآبدين. ومن السطحية في الفهم أن نقول: إن الآية كانت تتطلب أن يكون القول "ثُمَّ لاَ يُنصَرُوا "لأن الاعراب يقتضي ذلك. لكن المعنى اللائق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان والاطمئنان للأمة المسلمة أمام خصومها لا بد أن يقول: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} وهي أكثر دقة حتى من "لاَ ينتصرون" لأن "ينتصرون" فيها مدخلية الأسباب منهم، أما {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} فهي تعني أن لا نصر لهم أبداً، حتى وإن تعصب لأهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن يستطيعوا ذلك. فإن رأيتم -أيها المسلمون- نصرا للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم لهم فاعلموا أنكم دخلتم معهم على غير منهج الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبشر الآية الأُولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات
أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنهم منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأن ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلاَّ طفيفاً وعابراً: (لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون).
إن هاتين الآيتين تحتويان في الحقيقة على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق جميعها في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته الشريفة وهي:
إن أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأن ما يلحقونه بهم لن يكون إلاّ أضراراً بسيطة، وعابرة (لن يضروكم إلاّ أذى).
إنهم لن يثبتوا في القتال أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً: (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون).
إنهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائماً، إلاَّ أن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق الله،