ثم قال - تعالى - : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أى : هو رب السموات والأرض ورب ما بينهما ، وهو خالقهما وخالق كل شىء ، ومالكهما ومالك كل شىء .
وما دام الأمر كذلك : { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } أى : فأخلص له العبادة ووطن نفسك على أداء هذه العبادة بصبر وجلد وقوة احتمال ، فإن المداومة على طاعة الله تحتاج إلى عزيمة صادقة ، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء .
والاستفهام فى قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } للإنكار والنفى . والسمى بمعنى المسامى والمضاهى والنظير والشبيه .
أى : هل تعلم له نظيرا أو شبيهاً يستحق معه المشاركة فى العبادة أو الطاعة ؟ كلا ، إنك لا تعلم ذلك ، لأنه - سبحانه - هو وحده المستحق للعبادة والطاعة ، إذ هو الخالق لكل شىء والعليم بكل شىء ، والقادر على كل شىء ، وما سواء إنما هو مخلوق له ، وساجد له طوعاً أو كرهاً ، ولا شبهة فى صفة من صفاته ، فهو - سبحانه - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير }
( رب السماوات والأرض وما بينهما ) . . فلا ربوبية لغيره ، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير .
( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . اعبده واصطبر على تكاليف العبادة . وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود ، والثبات في هذا المرتقى العالي . اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي . . إنها مشقة . مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل ، ومن كل هاتف ومن كل التفات . . وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق . ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة ، وإلا بالتجرد لها ، والاستغراق فيها ، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة . فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها ، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا .
( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر . إنما هي كل نشاط : كل حركة . كل خالجة . كل نية . كل اتجاه . وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه . مشقة تحتاج إلى الاصطبار . ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء . خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات ، وشهوات النفس ، ومواضعات الحياة .
إنه منهج حياة كامل ، يعيش الإنسان وفقه ، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله ؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء . وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة .
فاعبده واصطبر لعبادته . . فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب . . ( هل تعلم له سميا ? ) . هل تعرف له نظيرا ? تعالى الله عن السمي والنظير . .
وقوله : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [ أي : خالق ذلك ومدبره ، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه ، { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ]{[19011]} هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هل تعلم للرب مثلا أو شبها .
وكذلك قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج وغيرهم .
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى ، وتقدس اسمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : لم يكن ربك يا محمد ربّ السموات والأرض وما بينهما نسيا ، لأنه لو كان نسيا لم يستقم ذلك ، ولهلك لولا حفظه إياه ، فالربّ مرفوع ردّا على قوله رَبّكَ .
وقوله : فاعْبُدْه يقول : فالزم طاعته ، وذلّ لأمره ونهيه وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ يقول : واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه ، والعمل بطاعته ، تفز برضاه عنك ، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا يقول : هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته ، والصبر على طاعته مثلاً في كرمه وجوده ، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه ؟ كلا ، ما ذلك بموجود . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا يقول : هل تعلم للربّ مثلاً أو شبيها .
حدثني سعيد بن عثمان التنوخي ، قال : حدثنا إبراهيم بن مهدي ، عن عباد بن عوّام ، عن شعبة ، عن الحسن بن عمارة ، عن رجل ، عن ابن عباس ، في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : شبيها .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن مجاهد في هذه الاَية هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : هل تعلم له شبيها ، هل تعلم له مثلاً تبارك وتعالى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا لا سميّ لله ولا عِدل له ، كلّ خلقه يقرّ له ، ويعترف أنه خالقه ، ويعرف ذلك ، ثم يقرأ هذه الاَية : وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : يقول : لا شريك له ولا مثل .
{ رب السماوات والأرض وما بينهما } بيان لامتناع النسيان عليه ، وهو خبر محذوف أو بدل من { ربك } { فاعبده واصطبر لعبادته } خطاب للرسول صلى الله عليه ، وسلم مرتب عليه أي لما عرفت ربك لأنه لا ينبغي له أن ينساك ، أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفر ، وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب اصطبر لقرنك . { هل تعلم له سميا } مثلا يستحق أن يسمى إلها أو أحدا سمي الله فإن المشركين وإن سموا الصنم إلها لم يسموه الله قط ، وذلك لظهور أحديته تعالى ، وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها .
وقوله { رب } بدل من قوله { وما كان ربك } ، وقوله { فاعبده واصطبر لعبادته } أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج الى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه . وقرأ الجمهور «هل تعلم » بإظهار اللام ، وقرأ بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي : سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء والدال والثاء والضاد والزاي والسين ، وقرأ أبو عمرو «وهل ثوب »{[7999]} بإدغامها في الثاء وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من قول مزاحم العقيلي : [ الطويل ]
فذر ذا ولكن هل تعين متيماً . . . على ضوء برق آخر الليل ناصب{[8000]}
وقوله { سمياً } ، قال قوم : وهو ظاهر اللفظ معناه موافقاً في الاسم وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله { رب السماوات والأرض وما بينهما } أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة ؟ وذلك أن الأمم{[8001]} والفرق لا يسمون بهذا الأسم وثناً ولا شيئاً سوى الله تعالى ، وأما الألوهية والقدرة وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد . وقال ابن عباس وغيره : قوله { سمياً } معناه مثيلاً أو شبيهاً أو نحو ذلك ، وهذا قول حسن ، وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليه السلام{[8002]} .
جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله { فاعْبُدْهُ } إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن : أن الملائكة لا يتصرفون إلاّ عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات ، ثمّ فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته ، فقد انتقل الخطاب إليه .
وارتفع { رَبُّ السموات } على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر . وهذا الحذف سمّاه السكاكي بالحذف الذي اتّبِع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة :
سأشكر عَمْرَاً إنْ تراختْ منيتــي *** أياديَ لم تُمنَنْ وإنْ هـــيَ جلّتِ
فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهرُ الشكوى إذا النعل زلّت
والسماوات : العوالم العلوية . والأرض : العالم السفلي ، وما بينهما : الأجواء والآفاق . وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات .
والخطاب في { فَاعبُدهُ واصْطَبِر } و { هَلْ تَعْلَمُ } للنبيء صلى الله عليه وسلم
وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك .
والاصطبار : شدّة الصبر على الأمر الشاق ، لأنّ صيغة الافتعال تَرِد لإفادة قوّة الفعل . وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف ( على ) كما قال تعالى : { وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] ولكنه عدي هنا باللاّم لتضمينه معنى الثّبات . أي اثبت للعبادة ، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس ، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء : « هي أثقل صلاة على المنافقين » فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة ، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه ، فعدي الفعل باللاّم كما يقال : اثبت لعُدَاتك .
وجملة { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها .
والسميّ هنا الأحسن أن يكون بمعنى المُسامي ، أي المماثل في شؤونه كلها . فعن ابن عباس أنه فسّره بالنظير ، مأخوذاً من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل ، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب :
أي المُسمع . وكما سمي تعالى الحكيم ، أي المُحكم للأمور ، فالسميّ هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة .
والاستفهام إنكاري ، أي لا مسامي لله تعالى ، أي ليس من يساميه ، أي يضاهيه ، موجوداً .
وقيل السميّ : المماثل في الاسم . كقوله في ذكر يحيى { لم نجعل له من قبل سمياً } [ مريم : 7 ] . والمعنى : لا تعلم له مماثلاً في اسمه الله ، فإن المشركين لم يسموا شيئاً من أصنامهم الله باللاّم وإنّما يقولون للواحد منها إله ، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية ، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية . قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] . وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلاً للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضاً .
وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له ، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم ، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره .