4- وما أرسلنا رسولا قبلك - يا أيها النبي - إلا متكلماً بلغة قومه الذين بعثناه فيهم ليفهمهم ما أتى به ، فيفقهوه ويدركوه بسهولة ، وليس عليه هدايتهم ، فالله يضل من يشاء لعدم استعداده لطلب الحق ، ويهدى من يشاء لحسن استعداده ، وهو القوى الذي لا يغلب على مشيئته ، والذي يضع الأمور في مواضعها ، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة .
ثم بين - سبحانه - منة أخرى من مننه على عباده فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ . . . } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر فى أول السورة { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور . . . } كان هذا إنعاما على الرسول ، من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاما على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر . . .
ثم ذكر فى هذه الآية ما يجرى مجرى تكميل النعمة والإِحسان فى الوجهين :
أما بالنسبة إلى الرسول ، فلأن بعثته كانت إلى الناس عامة . .
وأما بالنسبة لعامة الخلق ، فلأنه - سبحانه - ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم . . . " .
والباء فى قوله " بلسان " للملابسة ، والمراد باللسان : اللغة التى يتخاطب بها الرسول مع قومه . .
قال ابن كثير : " هذا من لطفه - تعالى - بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغتهم ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم كما قال الإِمام أحمد .
حدثنا وكيع ، عن عمر بن أبى ذر قال : قال مجاهد : عن أبى ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يبعث الله - عز وجل - نبيا إلا بلغة قومه " .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة ، وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة - أيضا - قلت : لا يخلو إما أن ينزل لجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقى أن ينزل بلسان واحد .
فكان أول الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أقرب إليه .
فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم فى كل أمة من أمم العجم ، مع ما فى ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم فى تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف . . . " وقال الشوكانى : ما ملخصه : " وقد قيل فى هذه الآية إشكال ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جمعيا ، ولغاتهم متباينة . . .
وأجيب : بأنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مرسلا إلى الثقلين ، لكن لما كان قومه العرب ، وكانوا أخص به وأقرب إليه ، كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم ، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم .
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم ، وبينه الرسول لكل قوم بلسانهم ، لكان ذلك مظنة للاختلاف ، وفتحا لباب التنازع ، لأن كل أمة قد تدعى من المعانى فى لسانها ما لا عرفه غيرها .
وربما كان ذلك - أيضا - مفضيا إلى التحريف والتصحيف ، بسبب الدعاوى الباطلة التى يقع فيها المتعصبون " .
وجملة { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } مستأنفة .
أى : فيضل الله من يشاء إضلاله ، أى يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه .
ويهدى من يشاء هدايته ، لاراد لمشيئته ، ولا معقب لحكمه .
" وهو " سبحانه " العزيز " الذى لا يغلبه غالب " الحكيم " فى كل أفعاله وتصرفاته .
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : وتفريع قوله " فيضل الله من يشاء . . . إلخ " على مجموع جملة { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ، ولذلك جاء فعل " يضل " مرفوعا غير منصوب ، إذ ليس عطفا على فعل " ليبين " لأن الإِضلال لا يكون معلولا للتبين ولكنه مفرع على الإِرسال المعلل بالتبيين .
والمعنى : أن الإِرسال بلسان قومه لعلة التبيين . وقد يحصل أثر التبيين بمعرفة الاهتداء ، وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت وظيفة القرآن الكريم ، ووظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما توعدت الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا فى كفرهم وغيهم ، كما وضحت بعض مظاهر قدرة الله - تعالى - ولطفه بعباده ، وفضله عليهم .
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . .
وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة . فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم ، ليبين لهم وليفهموا عنه ، فتتم الغاية من الرسالة .
وقد أرسل النبي [ ص ] بلسان قومه - وإن كان رسولا إلى الناس كافة - لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى كافة البشر . وعمره [ ص ] محدود . وقد أمر ليدعو قومه أولا حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام . ومن ثم تكون مهدا يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض . والذي حدث بالفعل - وهو من تقدير الله العليم الخبير - أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام إلى آخر حدود الجزيرة ، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة ، الذي توفي الرسول [ ص ] ولم يتحرك بعد . . وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو إلى الإسلام ، تصديقا لرسالته إلى الناس كافة . ولكن الذي قدره الله له ، والذي يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود ، أن يبلغ الرسول [ ص ] قومه بلسانهم ، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى الأصقاع . . وقد كان . . فلا تعارض بين رسالته للناس كافة ، ورسالته بلسان قومه ، في تقدير الله ، وفي واقع الحياة .
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . . ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء )
إذ تنتهي مهمة الرسول - كل رسول - عند البيان . أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال ، فلا قدرة له عليه ، وليس خاضعا لرغبته ، إنما هو من شأن الله . وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة . فمن سار على درب الضلال ضل ، ومن سار على درب الهدى وصل . . هذا وذلك يتبع مشيئة الله ، التي شرعت سنته في الحياة .
القادر على تصريف الناس والحياة ، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافا بلا توجيه ولا تدبير .
هذا من لطفه تعالى بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا{[15739]} منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، عن عمر{[15740]} بن ذر قال : قال مجاهد : عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يبعث الله ، عز وجل ، نبيا إلا بلغة قومه " {[15741]} .
وقوله : { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل تعالى من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى الحق ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، { الحكيم } في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ، ويهدي من هو أهل لذلك .
وقد كانت هذه سنة الله في خلقه : أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم ، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم ، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسًا لم يُعطَهُن أحد من الأنبياء قبلي : نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا ، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " {[15742]} .
وله شواهد من وجوه كثيرة ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وما أرسلنا إلى أمة من الأمم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاً إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم ، ليُبَيّنَ لهم يقول : ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونهيه ، ليثبت حجة الله عليهم ، ثم التوفيق والخذلان بيد الله ، فيخذل عن قبول ما أتاه به رسوله من عنده من شاء منهم ، ويوفّق لقبوله من شاء ولذلك رفع «فيُضلّ » ، لأنه أريد به الابتداء لا العطف على ما قبله ، كما قيل : لنُبَيّنَ لَكُمْ ونُقِرّ في الأرْحَامِ ما نَشاءُ ، وهو العزيز الذي لا يمتنع مما أراده من ضلال أو هداية من أراد ذلك به ، والحكيم في توفيقه للإيمان من وفقه له وهدايته له من هداه إليه ، وفي إضلاله من أضلّ عنه ، وفي غير ذلك من تدبيره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسان قَوْمِهِ : أي بلغة قومه ما كانت ، قال الله عزّ وجلّ : ليُبَيّنَ لَهُمْ الذي أرسل إليهم ليتخذ بذلك الحجة ، قال الله عزّ وجلّ : فَيُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ .
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم . { ليبيّن لهم } ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولا ، ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الجهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشبعة منها وما في أتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب . وقرئ " بلسن " وهو لغة فيه كريش ورياش ، ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد . وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ، ثم ترجمها جبريل عليه السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله : { ليبين لهم } فإنه ضمير القوم ، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب . { فيُضلّ الله من يشاء } فيخذله عن الإيمان . { ويهدي من يشاء } بالتوفيق له . { وهو العزيز } فلا يغلب على مشيئته . { الحكيم } الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمه .
هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام ، أي لست يا محمد ببدع من الرسل ، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا ، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة ، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالاً في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي ، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع{[7001]} قوله : { فيضل } أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين ، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل ، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه ، وله في ذلك العزة التي لا تعارض ، والحكمة التي لا تعلل ، لا رب غيره .
قال القاضي أبو محمد : فإن اعترض أعجمي بأن يقول : من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه ؟ قيل له : أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك ، وفي ذلك كفايتك .
فإن قال : ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة ؟ قيل له : الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر ، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة ، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء .
و «اللسان » في هذه الآية يراد به اللغة{[7002]} .
وقرأ أبو السمال «بلسْن » بسكون السين دون ألف - كريش ورياش - ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن - بسكون السين{[7003]} .