ولما قدم ما أفهم{[44514]} أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها ، فكان في غاية العدالة ، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال ، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته{[44515]} لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص{[44516]} لسان كل من الرسل بقومه ، فلذلك أتبعه قوله : { وما أرسلنا{[44517]} } أي بما لنا من العظمة ، وأعرق{[44518]} في النفي فقال : { {[44519]} من رسول{[44520]} } أي في زمن من الأزمان{[44521]} { إلا بلسان } أي لغة
{ قومه } أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون { ليبين } أي بياناً شافياً { لهم } كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي{[44522]} بلسان قومك لتبين لهم ولجميع الخلق ، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها ، فهو معطوف على { أنزلناه } بالتقدير الذي تقدم ، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته { فيضل } أي فتسبب عن ذلك أنه يضل { الله } أي الذي له الأمر كله { من يشاء } إضلاله ، وقدم سبحانه هذا{[44523]} اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال { ويهدي من يشاء } هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي ، وأما الرسل فمبينون{[44524]} ملزمون للحجة تمييزاً للضال{[44525]} من المهتدي { وهو } أي وحده { العزيز } الذي لا يرام ما عنده إلا به ، ولا يمتنع{[44526]} عليه شيء أراده { الحكيم * } الذي لا ينقض ما دبره ، فلذلك{[44527]} دبر بحكمته إرساله{[44528]} صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي ، لأن المقصود جمع الخلق على الحق ، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك ، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود ، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء{[44529]} فيفوت الإيمان بالغيب ، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء{[44530]} أهل كل{[44531]} لسان أن التعبير عنه{[44532]} بلسانهم أعظم ، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة ، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم ، أقرب إليه ، فيكون فهمهم{[44533]} لأسرار شريعته و{[44534]} وقوفهم على حقائقها أسهل ، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد ، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا ، فانتشر الأمر وعم وسهل ، وكان مع ذلك أبعد من{[44535]} التحريف وأسلم من التنازع .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت{[44536]} سورة الرعد على ما تمهد{[44537]} بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها ، قال تعالى :{ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور }[ إبراهيم :1 ] أي إذا هم{[44538]} تذكروا به واستبصروا ببراهينه{[44539]} وتدبروا آياته{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض }[ الرعد : 31 ] . ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } قال تعالى هنا { بإذن ربهم } ، إنما عليك البلاغ . ولما قال تعالى :
{ وكأين من آية في السماوات والأرض }[ يوسف :105 ] تم بسطها في سورة الرعد ، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال :{ الذي له ما في السماوات وما في الأرض }[ إبراهيم : 2 ] {[44540]} فالسماوات والأرض{[44541]} بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم{[44542]} الاعتبار به ، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً ،
{ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً{[44543]} }[ آل عمران :83 ] { وويل للكافرين من عذاب شديد }[ إبراهيم :2 ] لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه{ ويصدون عن سبيل الله }[ التوبه :34 ] مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل ، ثم{[44544]} قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم :4 ] وكأن هذا من تمام قوله سبحانه{ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية }[ الرعد :38 ] وذلك أن الكفار لما حملهم{[44545]} الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا :{ أبشر يهدوننا }[ التغابن :6 ] ، { ما أنتم{[44546]} إلا بشر مثلنا }[ يس :15 ] وحتى قالت قريش :{ لولا أنزل عليه ملك }[ الأنعام : 8 ] ، { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق }
{ وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }[ الزخرف :31 ] فلما كثر هذا منهم وتبع{[44547]} خلفهم في هذا سلفهم{[44548]} ، رد تعالى أزعامهم{[44549]} وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج{[44550]} في هذا الغرض شيئاً فشيئاً ، فأول الوارد{[44551]} من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى : أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم }[ يونس :2 ] ، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية ، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه ، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر ، فأرغم الله{[44552]} تعالى بمضمون هذه الآي{[44553]} كل جاحد ومعاند ؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول{[44554]} قوم نوح{ ما نراك إلا بشراً مثلنا }[ هود :27 ] ، الآية وجوابه عليه السلام{ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون }[ هود :63 ] أي{[44555]} أني و{[44556]} إن كنت في{[44557]} البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على{[44558]} ما جئتكم{[44559]} به عنه ، وفي هذه القصة{[44560]} أعظم عظة ، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام ، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات ، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما{[44561]} هو شاهد على تعنتهم{[44562]} ، ثم زاد سبحانه تعالى{[44563]} نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل{[44564]} مقالتهم ، فقال تعالى :{ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية }[ الرعد :38 ] وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط{[44565]} شيئاً من مناصبهم ، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد . ثم تلا ذلك بقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر ، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة : لا نفهم عنهم{[44566]} ، إذ قالوا ذلك مع اتفاق{[44567]} اللغات ، فقد قال قوم شعيب عليه السلام{ ما نفقه كثيراً مما تقول{[44568]} }[ هود :91 ] هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم{[44569]} في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها{[44570]} من مألوفات البشر لكان منفراً ، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون{[44571]} }[ الأنعام :9 ] أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر{[44572]} فكونهم من البشر{[44573]} أقرب وأقوم للحجة . ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة ، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب{[44574]} كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم ، وتأمل كم{[44575]} بين كتابه{[44576]} صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه{[44577]} إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض ، وللكتابين{[44578]} نظائر يوقف عليها في مظانها ، وكل ذلك لتقوم{[44579]} الحجة على الجميع ، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها - انتهى .