الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (4)

{ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به ، كما قال : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ]

فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً { قل يا أَيُّهَا النَّاس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية ، لم تكن للعرب حجة أيضاً . قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة ، على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه . وقرئ : «بلسن قومه » . واللسن واللسان : كالريش والرياش ، بمعنى اللغة . وقرئ : «بلُسن قومه » بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة ، وهو جمع لسان ، كعماد وعمد على التخفيف . وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورووه عن الضحاك . وأن الكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه ، وليس بصحيح ؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآء } كقوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن . ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن . والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان { وَهُوَ العزيز } فلا يغلب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف .