اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (4)

قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } الآية لما ذكر في أوّل السورة : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه -صلوات الله وسلامه عليه- هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [ إلى الرشد ]{[19121]} ، وأرشدهم إلى نور الإيمان . ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة ، والإحسان في الوجهين ؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- ؛ فلأنه -تعالى- بين أنَّ سائر الأنبياء -عليه الصلاة و السلام أجمعين- كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه -تعالى- ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم .

قوله : { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } يجوز أن يكون حالاً ، أي : إلاَّ [ متكلماً ]{[19122]} بلغة قومه .

قال القرطبي{[19123]} : " وحَّد اللسان ، وإن أضافه إلى القوم ؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم جنسٍ يقع على القليلِ ، والكثير " .

وقرأ العامة : " بلِسانِ " بزنة كتابِ ، أي : بلغةِ قومهِ . وقرأ أبو{[19124]} الجوزاء وأبو السمالِ وأبو عمران الجوني : بكسر اللام وسكون السين ، وفيه قولان :

أحدهما : أنَّهما بمعنى واحد ، كالرِّيشِ والرِّياش .

والثاني : أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة ، ذكره ابن عطيَّة ، وصاحب اللَّوامح .

وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل{[19125]} ، والجحدريُّ : بضم اللام والسين ، وهو جمع لِسَان كَكِتَاب وكُتُب ، وقرئ بسكون السين{[19126]} فقط ، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله ، نحو " رُسْل في رُسُل " ، و " كُتْب " في " كُتُب " ، والهاء في " قَوْمِهِ " الظاهر عودها على " رَسُولٍ " المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى : إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- التوراة .

فصل

احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية ، فقال : لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم ، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذلك ؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف ؛ فوجب حصولها بالاصطلاح .

ومعنى الآية : وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه .

فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة ، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم :

" وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة " .

فالجواب : بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم ، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطراف يدعوهم إلى الله -تعالى- ويترجمون لهم بألسنتهم .

وقيل : المراد من قومه أهل بلدته ، وليس المراد من قومه أهل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله : { قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وإلى الجنّ أيضاً ؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] .

قال القرطبي{[19127]} : " ولا حجة للعجم ، وغيرهم في هذه الآية ؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله -عز وجل- { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } ، وقال -عليه الصلاة والسلام- : " أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ " وخرجه مسلم -رحمه الله-{[19128]} .

فصل

زعمت طائفة من اليهود يقال لهم : [ العيسوية ]{[19129]} أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى العرب خاصة ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين :

الأول : أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب ، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه ؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته .

الثاني : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب .

والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله .

قوله : " فَيُضِلُّ " استنئاف إخبار ، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله ؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسل أرسلت للبيان لا [ للإضلال ] .

قال الزجاج : " لو قرئ بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز " .

قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيز الحكيم } تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية ، والضلال من الله -سبحانه وتعالى جل ذكره- .

قالوا : وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ ، وعمر -رضوان الله عنهما- وعن الصَّحابة أجمعين -أقبلا في جماعة من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا ؟ فقال بعضهم يا رسول الله : يقول أبو بكرٍ : الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر : كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر ، وتبع بعضهم عمر ، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر -رضي الله عنه- وأعرض عنه حتى عرف في وجهه ، ثم أقبل على عمر -رضي الله عنه- فتعرف ما قاله ، وعرف السرور في وجهه ، فقال -صلوات الله وسلامه عليه- : " أقضي بينكما كما قضى إسرافيل بين جبريل وميكائيل -صلوات الله وسلامه عليهما- فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ ، فقضاء إسرافيل -صلوات الله عليه- أن القدر كله خيره وشره من الله -تعالى- وهذا قضائي بينكما " ؟ .

قالت المعتزلة : لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه :

الأول : أنه -تبارك وتعالى- قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي : ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله -تعالى- من إرسال الرَّسول -صلوات الله وسلامه عليه- حصول الإيمان للمكلفين ، فلو كان مقصوده الإضلال ، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود .

والثاني : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- إذا قال لهم : إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا : فما لنبوتك فائدة ، وما المقصود من إرسالك ؟ وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله فينا ؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة ، وتفسد بعثة الرسل .

الثالث : إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله -تعالى- ومشيئته ، فيجب أن يكون الرضا به واجباً ؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب ، وذلك لا يقوله عاقل .

الرابع : أنَّ مقدمة الآية ، وهي قوله -جل ذكره- { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } يدلُّ على العدل ، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله -جلَّ ذكره- { وَهُوَ العزيز الحكيم } فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله :

{ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } دليل على خلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه :

الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال : فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي : يحكمُ بكونه كافرا ضالاً .

والثاني : أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار .

والثالث : أنَّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله ، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه .

قال الزمخشري{[19130]} : " والمراد بالإضلال التخلية ، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف ، والتَّوفيق " .

قال ابن الخطيب{[19131]} -رحمه الله- : " والجواب قوله -عزَّ وجلَّ- { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } لا يليق به أن يضلهم .

قلنا قال الفراء : إذا ذكر فعل ، وبعده آخر ، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه ، وإن لم يكن مشاكله ، استأنفه ورفعه ، نظيره :

{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله } [ التوبة : 32 ] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف .

ونظيره أيضاً قوله : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام } [ الحج : 5 ] ومن ذلك قولهم : " أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ " بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه ؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ]

يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ{[19132]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال الله تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ثمَّ قال : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } ذكر : " فَيُضِلُّ " بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال -عزَّ وجلَّ- : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال : ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه -تعالى- يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء ، والغرضُ منه : التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك ؛ لأنَّ الهداية ، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله -تعالى- .

وأما قولهم : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله -تعالى- لكان للكافر أن يقول : ما الفائدة في نبوتك ودعوتك ؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً ، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً ؟ وإذا لم أقدر عليه ، فكيف يأمرني بهذا الإيمان ؟ فالسؤال وارد عليه .

وأما قولهم ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً ؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا : ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً ؛ لأنَّه -تعالى- لما أخبر عن كفره ، وعلم كفره ، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً ، وخبره الصدق كذباً ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ؛ فيلزمك على مذهبك ، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا .

وأمَّا قولهم رابعاً : إن مقدمة الآية ، و هو قوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } يدلُّ على صحَّة الاعتزال .

فنقول : قد ذكرنا أن قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة .

وأما قولهم خامساً : إنَّه -تعالى- وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً ، وذلك ينافي كونه -تعالى- خالقاً للكفر مريداً له ، فنقول : وصف نفسه بكونه عزيزاً ، والعزيزُ : هو الغالب القاهر ، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل ، وأراد عدم الكفر منهم ، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا ؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله -جل ذكره- : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] .


[19121]:زيادة من ب.
[19122]:ي أ: مكلما.
[19123]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 9/223.
[19124]:ينظر المحرر الوجيز 3/323 والبحر المحيط 5/394 والدر المصون 4/251.
[19125]:ينظر: البحر المحيط 5/394 والدر المصون 4/251.
[19126]:ينظر: البحر المحيط 5/394 والدر المصون 4/ 251.
[19127]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/223.
[19128]:قدم تخريجه.
[19129]:ي أ: اليعقوبية.
[19130]:ينظر: الكشاف 2/539.
[19131]:نظر: الفخر الرازي 19/64.
[19132]:1 البيت للحطيئة الديوان (111) ينظر: معاني الفراء 2/68، الرازي 19/83، إعراب النحاس 3/364، الكتاب 1/430، الخزانة شاهد (149)، المقتضب 2/33، العقد الفريد 2/480، الأغاني 2/57، العمدة 1/74، المغني (168)، الهمع 2/131، الدرر 2/171، اللسان (عجم)، ملحقات ديوان رؤبة (186)، شرح شواهد المغني 4/95، الدر المصون 3/253. وقبله: الشعر صعب وطويل سلّمــه *** إذا ارتقى له الذي لا يعلمــــه زلّت به إلى الحضيض قدمه *** والشعر لا يسطيعه من يظلمه والشاهد فيه: رفع "فيُعجمه" على القطع، والتقدير: فإذا هو يُعجمه، ولا يجوز نصبه على العطف؛ لاختلال المعنى، فهو لا يريد إعجامه.