مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (4)

قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } كان هذا إنعاما على الرسول من حيث أنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاما أيضا على الخلق من حيث أنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان ، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين . أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق ، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم ، فإنه متى كان الأمر كذلك ، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ، ووقوفهم على حقائقها أسهل ، وعن الغلط والخطأ أبعد . فهذا هو وجه النظم .

المسألة الثانية : احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية . قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل ، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم ، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف ، فوجب حصولها بالاصطلاح .

المسألة الثالثة : زعم طائفة من اليهود يقال لهم : العيسوية أن محمدا رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن القرآن لما كان نازلا بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب . وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ، ومن لا يكون عربيا لم يكن القرآن حجة عليه . الثاني : قالوا : إن قوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } المراد بذلك اللسان لسان العرب ، وذلك يقتضي أن يقال : إنه ليس له قوم سوى العرب ، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط .

والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد من { قومه } أهل بلده ، وليس المراد من { قومه } أهل دعوته . والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } بل إلى الثقلين ، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .

المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا بقوله تعالى : { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } على أن الضلال والهداية من الله تعالى ، والآية صريحة في هذا المعنى . قال الأصحاب : ومما يؤكد هذا المعنى ما روي : أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال عليه السلام " ما هذا " فقال بعضهم : يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ، ويقول : عمر كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر ، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه . ثم قال : " أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل ، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر ، فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما " ، قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } والمعنى : أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم ، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل ، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين ، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائما لهذا المقصود . والثاني : أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك ، وما المقصود من إرسالك ، وهل يمكننا أن نزيل كفرا خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل . الثالث : أنه إذا كان الكفر حاصلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، وجب أن يكون الرضا به واجبا لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وذلك لا يقوله عاقل . والرابع : أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } يدل على مذهب العدل ، وأيضا مؤخرة الآية يدل عليه ، وهو قوله : { وهو العزيز الحكيم } فكيف يكون حكيما من كان خالقا للكفر والقبائح ومريدا لها ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله : { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل ، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } ولا بأس بإعادة بعضها ، فالأول : أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافرا ضالا كما يقال : فلان يكفر فلانا ويضلله ، أي يحكم بكونه كافرا ضالا ، والثاني : أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار ، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة . والثالث : أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله ، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه . قال صاحب «الكشاف » : المراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف .

والجواب عن قولهم أولا أن قوله تعالى : { ليبين لهم } لا يليق به أن يضلهم .

قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثاني مشاكلا للأول نسقته عليه ، وإن لم يكن مشاكلا له استأنفته ورفعته . ونظيره قوله تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله } فقوله : { ويأبى الله } في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ، لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ، ونظيره أيضا قوله : { لنبين لكم ونقر في الأرحام } ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر ، بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ، ومثله قول الشاعر :

يريد أن يعربه فيعجمه *** . . .

إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى : { ليبين لهم } ثم قال : { فيضل الله من يشاء } ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى ، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى . أما قوله ثانيا : لو كان الضلال حاصلا بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك ؟ فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالا فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافرا فإن آمنت صار إلهك كاذبا فهل أقدر على جعل إلهك كاذبا ، وهل أقدر على جعل علمه جهلا ؟ وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان ؟ فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضا وارد عليه . وأما قوله ثالثا : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبا ، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

قلنا : ويلزمك أيضا على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله ، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا ، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا . وأما قوله رابعا : إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى :

{ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } يدل على صحة الاعتزال فنقول : قد ذكرنا أن قوله : { بإذن ربهم } يدل على صحة مذهب أهل السنة . وأما قوله خامسا : أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيما وذلك ينافي كونه تعالى خالقا للكفر مريدا له . فنقول : وقد وصف نفسه بكونه عزيزا والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم ، وقد حصل لما بقي عزيزا غالبا . فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة .