ثم بين - سبحانه - موقف أهل العلم النافع مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، وموقف الكافرين من ذلك ، ورد - سبحانه - على هؤلاء الكافرين بما يثبت ضلالهم وجهلهم ، فقال - تعالى - : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم . . . لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } .
والمراد بالرؤية فى قوله - تعالى - : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } المعرفة والعلم واليقين . والمراد بالذين أوتوا العلم : المؤمنون الصادقون الذين اتبعوا النبى صلى الله عليه وسلم فى كل ما جاءهم به من عند ربه ، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم ، كمؤمنى أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
والجملة الكريمة مستأنفة لمدح هؤلاء العلماء العقلاء على إيمانهم بالحق ، أو معطوف على يجزى فى قوله - تعالى - قبل ذلك : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والمراد ب { الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } القرآن الكريم .
والمعنى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما يقوله الكافرون بشأنك ولما يفعلونه لإِبطال دعوتك ، فإن الذين أوتوا العلم وهم أتباعك الصادقون ، يعلمون ويعتقدون أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو الصدق الذى لا يشوبه كذب ، وهو الكتاب الذى يهدى من اتبعه وأطاع توجيهاته إلى دين الله - تعالى - ، العزيز ، الذى يقهر ولا يقهر { الحميد } أى المحمود فى جيمع شئونه .
والمفعول الأول ليرى قوله : { الذي أُنزِلَ } . . والمفعول الثانى " الحق " و " هو " ضمير فصل متوسط بين المفعولين و " يهدى " معطوف على المفعول الثانى من باب عطف الفعل على الاسم لتأويله به ، أى : يرونه حقا وهاديا .
وعبر - سبحانه - عن إيمان أهل العلم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَيَرَى } ، للإِشعار بأنهم قد آمنوا هذا الإِيمان الجازم عن إدراك ومشاهدة ويقين ، وأنهم قد صاروا لا يشكون فى كون هذا المُنَزَّل عليه من ربه ، هو الحق الهادى إلى الصراط المستقيم .
وفى وصفهم بقوله : { أُوتُواْ العلم } ثناء عظيم عليهم ، لأنهم انتفعوا بعلمهم وسخروه لخدمة الحق ، وللشهادة له بأنه حق ، ويهدى إلى السعادة الدينية والدنيوية والأخروية .
وهكذا العلماء العاملون بمقتضى علمهم النافع . يكونون أنصارا للحق والهدى فى كل زمان ومكان .
الدرس الثالث : 6 شهادة أولي العلم بالحق الذي مع الرسول عليه السلام
وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم - وهي غيب من غيب الله - وتأكيد الله لمجيئها - وهو عالم الغيب - وتبليغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن ( الذين أوتوا العلم )يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد :
( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . .
وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب ، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق ، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد .
ومجال الآية أكبر وأشمل . فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان ، من أي جيل ومن أي قبيل ، يرون هذا متى صح علمهم واستقام ؛ واستحق أن يوصف بأنه( العلم ) ! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال . وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح . وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله . وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل .
( ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . .
وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود ؛ واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه . وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله ، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها ، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه .
يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه ؛ ومكان هذا الإنسان منه ، ودوره فيه ؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله - وهو معها - في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه ؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى باريء الوجود .
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير ، وإقامته على أسس سليمة ، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية ؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه ، والاستعانة بها ، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق .
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية . ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق - أفراداً وجماعات - مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون ! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه . . كل ذلك في بساطة ويسر ولين .
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة ، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء ، وسائر الخلائق ؛ فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته . وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير .
إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط . الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط ، العارف بطبيعة هذا وذاك . وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق . فكيف بمنشىء الطريق ومنشىء ء السالك في الطريق ? !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في كتاب مبين ، ليجزي الذين آمنوا ، والذين سعوا في آياتنا ما قد بين لهم ، وليرى الذين أوتوا العلم فيرى في موضع نصب عطفا به على قوله : يَجزي ، في قوله : لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا . وعنى بالذين أوتوا العلم : مسلمة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، ونظرائه الذين قد قرؤوا كتب الله التي أُنزلت قبل الفرقان ، فقال تعالى ذكره : وليرى هؤلاء الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو التوراة ، الكتاب الذي أُنزل إليك يا محمد من ربك هو الحقّ .
وقيل : عني بالذين أوتوا العلم : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رّبّكَ هُوَ الحَقّ قال : أصحاب محمد .
وقوله : وَيهْدِي إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ يقول : ويرشد من اتبعه ، وعمل بما فيه إلى سبيل الله العزيز في انتقامه من أعدائه ، الحميد عند خلقه ، فأياديه عندهم ، ونعمه لديهم . وإنما يعني أن الكتاب الذي أُنزل على محمد يهدي إلى الإسلام .
{ ويرى الذين أتوا العلم } ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة أو من مسلمي أهل الكتاب . { الذي أنزل إليك من ربك } القرآن . { هو الحق } ومن رفع { الحق } جعل هو مبتدأ و { الحق } خبره والجملة ثاني مفعولي { يرى } ، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات . وقيل منصوب معطوف على { ليجزي } أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى .