قوله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق } ، جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون ، { ولا تعجل بالقرآن } ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادر فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل مما يريد من التلاوة ومخافة الانفلات والنسيان ، فنهاه الله عن ذلك وقال ( ولا تعجل بالقرآن ) أي : لا تعجل بقراءته { من قبل أن يقضى إليك وحيه } ، أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ ، نظيره قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) وقرأ يعقوب : نقضي بالنون وفتحها وكسر الضاد ، وفتح الياء وحيه بالنصب . وقال مجاهد ، وقتادة معناه لا تقرئه أصحابك ، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه . { وقل رب زدني علماً } يعني بالقرآن ومعانيه . وقيل : علماً إلى ما علمت . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم رب زدني إيماناً ويقيناً .
ثم أثنى - سبحانه - على ذاته بما يستحقه من صفات كريمة فقال : { فتعالى الله الملك الحق } .
أى : فجعل وعظم شأن الله - سبحانه - عن إلحاد الملحدين ، وإشراك المشركين فإنه هو وحده { الملك } المتصرف فى شئون خلقه ، وهو وحده الإله { الحق } وكل ما سواه فهو باطل .
ثم أرشد الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية تلقى القرآن من جبريل - عليه السلام - فقال : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ . . . } .
أى : ولا تتعجل بقراءة القرآن من قبل أن ينتهى جبريل من إبلاغه إليك ، قالوا : وكان النبى - صلى الله - عليه وسلم كلما قرأ عليه جبريل آية قرأها معه ، وذلك لشدة حرصه على حفظ القرآن ، ولشدة شوقه إلى سماعه ، فأرشده الله - تعالى - فى هذه الآية إلى كيفية تلقى القرآن عن جبريل ، ونهاه عن التعجل فى القراءة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - : أن يسأله المزيد من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } .
أى : وقل - أيها الرسول الكريم - مخاطبا ربك ومتوسلا إليه ، يا رب زدنى من علمك النافع .
قال الآلوسى : واستدلوا بالآية على فضل العلم حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة منه ، وذكر بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أمر بطلب الزيادة من شىء سوى العلم . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم انفعنى بما علمتنى ، وعلمنى بما ينفعنى ، وزدنى علما " وكان يقول : " الله زدنى إيمانا وفقها ويقينا وعلما " .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رّبّ زِدْنِي عِلْماً } .
يقول تعالى ذكره : فارتفع الذي له العبادة من جميع خلقه ، الملك الذي قهر سلطانه كلّ ملك وجبار ، الحقّ عما يصفه به المشركون من خلفه . " وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ " : يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تعجل يا محمد بالقرآن ، فتقرئه أصحابك ، أو تقرأ عليهم ، من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه ، فعوتب على إكتابه وإملائه ما كان الله ينزله عليه من كتابه مَنْ كان يُكْتِبه ذلك ، من قبل أن يبين له معانيه ، وقيل : لا تتله على أحد ، ولا تمله عليه ، حتى نبينه لك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيَهُ " قال : لا تتله على أحد حتى نبينه لك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : يقول : لا تتله على أحد حتى تتمه لك هكذا قال القاسم : حتى نتمه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ " يعني : لا تعجل حتى نبينه لك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ " : أي بيانه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ " قال : تبيانه .
حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة " مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ " من قبل أن يبين لك بيانه .
وقوله : " وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْما " يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد : ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائده العلم ما لا يعلم .
جملة { فتعالى الله الملك الحق } معترضة بين جملة { وكذلك أنزلناه } وبين جملة { ولا تعجل بالقرآن } . وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن ، وتلقين لشكره على ما بيّن لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله { وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً } إلى آخرها . . .
والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كلّ ذلك ناشىء عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة .
وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن مُلك غيره من المتَسَميّن بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمان } [ الفرقان : 26 ] . وفي الحديث : " فيقول الله أنا الملِكُ أيْنَ ملوك الأرض " ، أي أحضروهم هل تجدون منهم من ينازع في ذلك ، كقول الخليفة معاوية حين خطب في المدينة « يا أهل المدينة أين علماؤكم » .
والجمع بين اسم الجلالة واسمه ( المَلِك ) إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحَقّان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال ، وهو الدال على انحصار الإلهيّة وكمالها .
ثمّ أتبع ب ( الحق ) للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلاّ بما هو مقتضَى الحكمة .
والحق : الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره ، وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف .
وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضاً إلى أن القرآن قانون ذلك الملك ، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة .
وجملة { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس . فلمّا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صلاح الأمّة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عَقِب سماع تلك الآيات رغبةٌ أو طِلْبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعاً بعِظة الناس وصلاحهم ، فعلمه الله أن يكِل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العامَّ .
ومعنى { من قبل أن يقضى إليك وحيه } أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك ، أي ما نُفذ إنزاله فإنه هو المناسب . فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر عليهما السلام " ودَدنا أن موسى صبَر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما "
ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته . فعن ابن عبّاس : كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل حرصاً على الحفظ وخشية من النسيان فأنزل الله { ولا تعجل بالقرآن } الآية . وهذا كما قال ابن عبّاس في قوله تعالى : { لا تُحرّكْ به لسانك لتعجلَ به } [ القيامة : 16 ] كما في « صحيح البخاري » . وعلى هذين التأويلين يكون المراد بقضاء وحيه إتمامه وانتهاؤه ، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول .
وعن مجاهد وقتادة أن معناه : لا تعجل بقراءة ما أُنزل إليك لأصحابك ولا تُمْلِه عليهم حتى تتبين لك معانيه .
وعلى هذا التأويل يكون قضاء الوحي تمام معانيه . وعلى كلا التفسيرين يجري اعتبار موقع قوله { وقل رب زدني علماً .
وقرأ الجمهور يُقضى بتحتية في أوله مبنياً للنائب ، ورفع وحيُه على أنه نائب الفاعل . وقرأه يعقوب بنون العظمة وكسر الضاد وبفتحة على آخر نقضي وبنصب وحيَه .
وعطف جملة { وقل رب زدني علماً } يشير إلى أن المنهي عنه استعجال مخصوص وأن الباعث على الاستعجال محمود . وفيه تلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتبع نهيه عن التعجل الذي يرغبه بالإذن له بسؤال الزيادة من العلم ، فإن ذلك مجمع كل زيادة سواء كانت بإنزال القرآن أم بغيره من الوحي والإلهام إلى الاجتهاد تشريعاً وفهماً ، إيماء إلى أن رغبته في التعجل رغبة صالحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بَكر حين دخل المسجد فوجد النبي راكعاً فلم يلبث أن يصل إلى الصف بل ركع ودَبّ إلى الصف راكعاً فقال له : « زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ » .