قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش : يا محمد : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل ؟ و أرنا الملائكة يشهدون لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال له : اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } ، أي : حلفوا بالله جهد أيمانهم ، أي : بجهد أيمانهم ، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها .
قال الكلبي ومجاهد : إذا حلف الرجل بالله ، فهو جهد يمينه .
قوله تعالى : { لئن جاءتهم آية } ، كما جاءت من قبلهم من الأمم .
قوله تعالى : { ليؤمنن بها قل } يا محمد .
قوله تعالى : { إنما الآيات عند الله } ، والله قادر على إنزالها .
قوله تعالى : { وما يشعركم } ، وما يدريكم ، واختلفوا في المخاطبين بقوله { وما يشعركم } فقال بعضهم : الخطاب للمشركين الذين أقسموا . وقال بعضهم : الخطاب للمؤمنين . قوله تعالى : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، وأبو بكر عن عاصم { إنها } بكسر الألف على الابتداء ، وقالوا : تم الكلام عند قوله { وما يشعركم } ، ثم من جعل الخطاب للمشركين قال : معناه : وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه : وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله : { وما يشعركم } ، ثم ابتدأ فقال جل ذكره : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقرأ الآخرون : { أنها } بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين ، واختلفوا في قوله : { لا يؤمنون } ، فقال الكسائي : { لا } صلة ، ومعنى الآية : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] ، أي : يرجعون وقيل : إنها بمعنى لعل ، وكذلك هو في قراءة أبي ، تقول العرب : اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً ، أي : لعلك ، وقال عدي بن زيد :
أعاذل ما يدريك أن منيتي *** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي : لعل منيتي ، وقيل : فيه حذف وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة { لا تؤمنون } بالتاء على الخطاب للكفار ، واعتبروا بقراءة أبي : إذا جاءتكم لا تؤمنون ، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر ، دليلها قراءة الأعمش : { أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .
ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التى كان يقترحها المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } .
الجهد : الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها فى الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه . وهو مصدر فى موضع الحال .
أى : وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين فى أيمانهم ، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد ، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التى اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك .
وقد لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الرد المفحم لهم فقال : { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } .
أى : قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التى اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله ، فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته ، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها ، أما أنا فليس ذلك إلىَّ .
أخرج ابن جرير - بسنده - عن محمد بن كعب القرظى قال : " كلم نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له ، يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أى شىء تحبون أن آتيكم به " ؟ قالوا ، تجعل لنا الصا ذهبا ، فقال لهم " فإن فعلت تصدقونى " ؟ قالوا نعم . والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلى الله عليه وسلم " بل أتركهم حتى يتوب تائبهم " ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . إلى قوله ( ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) " .
وقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
أى : وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون فى إنزال هذه الآيات طمعا فى إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى : إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم فى نزول الآيات .
فالخطاب هنا للمؤمنين ، والاستفهام فى معنى النفى ، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم .
أى : إنكم إيها المؤمنون ليس عندكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذى لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التى يقترحونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنتا وجهلا .
قال صاحب الكشاف : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { أَنَّهَآ } أى الآية التى تقترحونها { إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون فى إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها ، فقال - عز وجل - وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، وقيل : إنها بمعنى " لعل " من قول العرب : ائت السوق أنك تشترى حماراً .
عوجا على الطلل المحيل لأننا . . . نبكى الديار كما بكى ابن خذام
وقرىء بكسر " إنها " على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة " .
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : حلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم ، وذلك أوكد ما قدوا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدّها : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ يقول : قالوا : نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدّق ما تقول يا محمد مثل الذي جاء من قبلنا من الأمم . لَيُؤْمِنُنّ بِها يقول : قالوا : لنصدقنّ بمجيئها بك ، وأنك لله رسول مرسل ، وأن ما جئتنا به حقّ من عند الله . وقيل : «ليؤمننّ بها » ، فأخرج الخبر عن الاَية والمعنى لمجيء الاَية . يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ إنّمَا الاَياتُ عِنْدَ اللّهِ وهو القادر على إتيانكم بها دون كلّ أحد من خلقه . وَما يُشْعِرُكُمْ يقول وما يدريكم إنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ . وذكر أن الذين سألوه الاَية من قومه هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها إلى قوله : يَجْهَلُونَ سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية ، واستحلفهم ليؤمننّ بها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها ثم ذكر مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ، فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة ؟ فأتنا بشيء من الاَيات حتى نصدّقك فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّ شَيْءٍ تُحِبونَ أنْ آتِيَكُمْ بِهِ ؟ » قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، فقال لهم : «فإنْ فَعَلْتُ تُصَدّقُونِي ؟ » قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبغك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال : لك ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ، ولئن أرسل آية فلم يصدّقوا عند ذلك لنعذّبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم . فقال : «بَلْ يَتُوبَ تائِبُهُمْ » . فأنزل الله تعالى : وأقْسَمُوا بالله . . . إلى قوله : يَجْهَلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ فقال بعضهم : خوطب بقوله : وَما يُشْعِرُكُمْ المشركون المقسمون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمننّ ، وانتهى الخبر عند قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافاً مبتدأ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَما يُشْعِرُكُمْ قال : ما يدريكم . قال : ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم أنّها إذَا جاءَتْ ؟ قال : أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يُؤْمِنُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : سمعت عبد الله بن زيد يقول : إنما الاَيات عند الله ، ثم تستأنف فيقول : أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إنّمَا الاَياتُ عِنْدَ اللّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم استقبل يخبر عنهم فقال : إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف : «أنّها » على أن قوله : «أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ » خبر مبتدأ منقطع عن الأوّل ، وممن قرأ ذلك كذلك بعض قرّاء المكيين والبصريين .
وقال آخرون منهم : بل ذلك خطاب من الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قالوا : وذلك أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية ، المؤمنون به . قالوا : وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الاَية أذا جاءت آمنوا ، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سل يا رسول الله ربك ذلك فسأل ، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك ، قل للمؤمنين بك يا محمد : إنما الاَيات عند الله ، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الاَيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به ففتحوا الألف من «أن » . وممن قرأ ذلك كذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة ، وقالوا : أدخلت «لا » في قوله : لا يُؤْمِنُونَ صلة ، كما أدخلت في قوله : ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ ، وفي قوله : وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنّهُمْ لا يَرْجِعُونَ وإنما المعنى : وحرام عليهم أن يرجعوا ، وما منعك أن تسجد .
وقد تأوّل قوم قرءوا ذلك بفتح الألف من : أنّها بمعنى : لعلها ، وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبَيّ بن كعب . وقد ذُكر عن العرب سماعاً منها : اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئاً ، بمعنى : لعلك تشتري وقد قيل : إن قول عديّ بن زيد العبادي :
أعاذِلَ ما يُدْرِيك أنّ مَنِيّتِي ***إلى ساعَةٍ فِي اليَومِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ
بمعنى : لعلّ منيتي وقد أنشدوني بيت دُرَيد بن الصّمة :
ذَرِيني أُطَوّفْ فِي البِلادِ لأنّنِي ***أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلّدَا
بمعنى : لعلني . والذي أنشدني أصحابنا عن الفراء : «لعلني أرى ما ترين » . وقد أنشد أيضاً بيت توبة بن الحُمَيّرِ :
لَعَلكَ يا تَيْساً نَزَا فِي مَرِيرَةِ ***مُعَذّبَ لَيْلَى أنْ تَرَانِي أزُورُها
«لَهّنَك يا تيساً » ، بمعنى : لأنك التي في معنى لعلك وأنشد بيت أبي النجم العجلي :
قُلْتُ لشَيْبانَ ادْنُ مِنْ لِقائِه ***إنا نُغَدّي القَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ
وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الاَية ، قول من قال : ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله ، أعنى قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ ، وأن قوله «أنها » بمعنى : «لعلها » .
وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قرّاء الأمصار بالياء من قوله : لا يُؤْمِنُونَ ولو كان قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ خطاباً للمشركين ، لكانت القراءة في قوله : لا يُؤْمِنُونَ بالتاء ، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قراء المكيين كذلك ، فقراءة خارجة عما عليه قرّاء الأمصار ، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها .
وإنما معنى الكلام : وما يدريكم أيها المؤمنون لعلّ الاَيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فيعاجَلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخّروا به .
الضمير في قوله { وأقسموا } عائد على المشركين المتقدم ذكرهم و { جهد } نصب على المصدر العامل فيه { أقسموا } على مذهب سيبويه لأنه في معناه ، وعلى مذهب أبي العباس المبرد فعل من لفظة ، واللام في قوله { لئن } لام موطئة للقسم مؤذنة به ، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله { ليؤمنن } و { آية } يريد : علامة . وحكي أن الكفار لما نزلت { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين }{[5050]} أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية .
وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهباً وأقسموا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة ، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل حتى يتوب تائبهم ونزلت هذه الآية{[5051]} ، وقرأ ابن مصرف «ليؤَمنَنْ » بفتح الميم والنون وبالنون الخفيفة ، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية إنما الآيات بيد الله وعنده ليست عندي فتقترح عليّ ثم قال { وما يشعركم } فاختلف المتأولون فيمن المخاطب بقوله { وما يشعركم } ومن المستفهم ب «ما » التي يعود عليها الضمير الفاعل في «يشعركم » ، فقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بذلك الكفار ، وقال الفراء وغيره المخاطب بها المؤمنون ، { وما يشعركم } معناه وما يعلمكم وما يدريكم ، وقرأ قوم «يشعرْكم » بسكون الراء ، وهي على التخفيف ، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الايادى «إنها » بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار ، فمن قرأ «تؤمنون » بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة واستقامت له المخاطبة أولاً وآخراً للكفار ، ومن قرأ «يؤمنون » بالياء وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولاً وآخراً المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بقوله { وما يشعركم } الكفار ثم يتسأنف الإخبار عنهم للمؤمنين ، ومفعول { يشعركم } الثاني محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها » بفتح الألف ، فمنهم من جعلها «أن » التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت وأعمل فيها { يشعركم } ، والتزم بعضهم «أن لا » زائدة في قوله { لا يؤمنون } وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون }{[5052]} لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم ، وكما جاءت في قول الشاعر : [ الطويل ]
أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ . . . نَعَمْ مِنْ فَتىً لا يَمْنَعُ الجُود قاتِلُهْ{[5053]}
قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل » ، كما جاءَت زائدة في قول الشاعر :
أفمنك لا برق كان وميضه . . . غاب تسنمه ضرام مثقب{[5054]}
ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية ، وضعّف الزجّاج وغيره زيادة لا وقال : هذا غلط ومنهم من جعل «أنها » بمعنى لعلها وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا ، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب : وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ أبو النجم ] : [ الراجز ]
قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ . . . أنَّى تَغذّى القومُ من شوائِهِ{[5055]}
فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي لا يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون ، وترجح عنده في الآية أن تكون «أن » على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون » ، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم ، وتكون الآية نظير قوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون }{[5056]} أي بالآيات المقترحة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويترتب على هذا التأويل أن تكون «ما » نافية ، ذكر ذلك أبو علي فتأمل . وترجح عنده أيضاً أن تكون لا زائدة ، وبسط شواهده في ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن في آخر الآية حذفاً يستغنى به عن زيادة لا ، وعن تأويلها بمعنى لعل وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون » أو يؤمنون .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون ، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت ، و { ما } استفهام على هذا التأويل ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا جاءتهم يؤمنون » بسقوط أنها .