قوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا } ، أي : من كان يريد بعمله الحياة الدنيا ، { وزينتها } ، نزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل { نوف إليهم أعمالهم فيها } ، أي : نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها . { وهم فيها لا يبخسون } ، أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .
ثم بين - سبحانه - سوء مصير الذين لا يريدون بأقوالهم وأعمالهم وجه الله - تعالى - فقال :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا . . . }
أى : من كان يريد بأقواله الحسنة وبأعماله الطيبة على حسب الظاهر ، الحصول على ( الحياة الدنيا وزينتها ) من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من المتع الدنيوية ، بدون التفات إلى ما يقربه من ثواب الآخرة .
من كان يريدون ذلك { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أى : نوصل إليهم - بإرادتنا ومشيئتنا - ثمار جهودهم وأعمالهم فى هذه الدنيا .
والتعبير بكان فى قوله { مَن كَانَ يُرِيدُ . . . } يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم ، بدون تطلع إلى خير الآخرة .
وعدى الفعل { نوف } بإلى ، مع أنه يتعدى بنفسه ، لتضمينه معنى نوصل .
وقوله - سبحانه - { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } تذييل قصد به تأكيد ما سبقه ، وتبيين مظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - مع عباده فى دنياهم .
والبخس : نقص الحق ظلما . يقال : بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه ونقصه .
أى : وهم فى هذه الدنيا لا ينقصون شيئا من نتائج جهودهم وأعمالهم ، حتى ولو كانت جهودا لا إخلاص معها ولا إيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الحَياةَ الدّنْيا وأثاثها وَزِينَتَها يطلب به ، نوَفّ إلَيْهِمْ أجور أعْمَالَهُمْ فِيها وثوابها . وَهُمْ فِيها يقول : وهم في الدنيا لا يُبْخَسُونَ يقول : لا يُنقصون أجرها ، ولكنهم يُوَفّونه فيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها . . . الآية ، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا لالتماس الدنيا يقول الله : أُوَفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعمل التماس الدنيا ، وهو في الاَخرة من الخاسرين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : ثواب ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا ، وَلَيْس لهُمْ في الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صَنُعوا فِيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا ، ولَيْسَ لَهُمْ في الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صنَعُوا فِيها قال : هي مثل الآية التي في الروم : وما أتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ في أمْوَالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْد اللّهِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : من عمل للدنيا وُفّيَهُ في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : من عمل عملاً مما أمر الله به من صلاة أو صدقة لا يريد بها وجه الله أعطاه الله في الدنيا ثواب ذلك مثل ما أنفق فذلك قوله : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها في الدنيا ، وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أجر ما عملوا فيها ، أولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها . . . الآية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عيسى ، يعني ابن ميمون ، عن مجاهد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : ممن لا يقبل منه جُوزي به يُعطي ثوابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عيسى الجرشي ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : ممن لا يقبل منه يعجل له في الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا يظلمون . يقول : من كانت الدنيا همه وسَدَمه وطلبته ونيته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يُفْضِي إلى الاَخرة وليس له حسنة يُعْطَي بها جزاء . وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الاَخرة . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ : أي في الاَخرة لا يظلمون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قتادة : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها . . . . الآية ، قال : من كان إنما همته الدنيا إياها يطلب أعطاه الله مالاً وأعطاه فيها ما يعيش ، وكان ذلك قصاصا له بعمله . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ قال : لا يظلمون .
قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ليث بن أبي سلم ، عن محمد بن كعب الُقَرِظيّ : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أحْسَنَ مِنْ مُحْسِنٍ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّهِ فِي عاجِلِ الدّنْيا وآجِلِ الاَخِرَةِ » .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها . . . . الآية ، يقول : من عمل عملاً صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرا في الدنيا يصل رحما ، يعطي سائلاً ، يرحم مضطرّا في نحو هذا من أعمال البرّ يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا ، ويوسع عليه في المعيشة والرزق ، ويقرّ عينه فيما خوّله ، ويدفع عنه من مكاره الدنيا في نحو هذا ، وليس له في الاَخرة من نصيب .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا حفص بن عمرو أبو عمر الضرير ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ قال : هي في اليهود والنصارى .
قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن أبي رجاء الأزدي ، عن الحسن : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : طيباتهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن وهب أنه بلغه أن مجاهدا كان يقول في هذه الآية : هم أهل الرياء ، هم أهل الرياء .
قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال : ثنى الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان ، أن عقبة بن مسلم حدثه ، أن شُفي بن ماتع الأصبحي حدثه : أنه دخل المدينة ، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة . فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس ، فلما سكت وخَلا قلت : أنشدك بحقّ وبحقّ لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نشغ نشغة ، ثم أفاق ، فقال : لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ، ثم مال خارّا على وجهه ، واشتدّ به طويلاً ، ثم أفاق ، فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا ربّ قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا ربّ قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق . فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله ، فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت . فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان جريء ، وقد قيل ذلك » . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي ، فقال : «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة » .
قال الوليد أبو عثمان : فأخبرني عقبة أن شفيّا هو الذي دخل على معاوية ، فأخبره بهذا .
قال أبو عثمان : وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافا لمعاوية ، قال : فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة ، فقال أبو هريرة وقد فعل بهؤلاء هذا ، فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هلك ، وقلنا : قد جاءنا هذا الرجل شرّ . ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال : صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وقرأ إلى : وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها . . . الآية ، قال : ممن لا يتقبل منه ، يصوم ويصلي يريد به الدنيا ، ويدفع عنه وهم الاَخرة . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون .
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } بإحسانه وبره . { نُوفّ إليهم أعمالهم فيها } نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الزرق وكثرة الأولاد . وقرئ " يوف " بالياء أي يوف الله و " نوف " على البناء للمعفول و " نوف " بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله :
وإن أتاه كريم يوم مسغبةٍ *** يقول لا غائب مالي ولا حرمُ
{ وهم فيها لا يُبخسون } لا ينقصون شيئا من أجورهم . والآية في أهل الرياء . وقيل في المنافقين . وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم .
وقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا } الآية ، قالت فرقة : ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة : هذا قول قتادة والضحاك{[6273]} ، وقال مجاهد : هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين : وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه ُشِفي بن ماتع الأصبحي{[6274]} عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء ، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة » فلما حدثه شفي بهذا الحديث ، بكى معاوية وقال : صدق الله ورسوله : وتلا : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآية ، إلى قوله : { وباطل ما كانوا يعملون }{[6275]} .
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله { يريد } يقصد ويعتمد ، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها . فالمعنى : من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله - في الدنيا - بالنعم والحواس وغير ذلك : فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها .
قال القاضي أبو محمد : فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية . وهو عندي أرجح التأويلات - بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن - فإنما قصد بهذه الآية { أولئك }{[6276]} .
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى { يريد } عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد ، وإن كان له مقصداً آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا ، ثم يأتي قوله : { ليس لهم } بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار ، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته ، وهذا ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير{[6277]} .
وقال أنس بن مالك : هي في أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية ، لا أنها ليست في غيرهم .
وقرأ جمهور الناس : : نوف «بنون العظمة ؛ وقرأ طلحة{[6278]} وميمون بن مهران » يوف «بياء الغائب{[6279]} .