قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } ، بطاعته وترك معصيته .
قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } ، قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات ، وقال عكرمة : نجاة ، أي يفرق بينكم وبين ما تخافون ، وقال الضحاك : بياناً ، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل ، يظهر الله به حقكم ، ويطفئ بطلان من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . قوله تعالى : { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم .
ثم ختم سبحانه - نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبيل الخير والفلاح فقال - سبحانه - { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } .
والفرقان في كلام العرب - كما يقول ابن جرير - مصدر من قولهم فرقت بين الشئ والشئ أفرق بينهما فرقاً وفرقاناً - أي أفرق وأفصل بينهما .
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عند تأويل قوله { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } فقال بعضهم : يجعل لكم مخرجا . وقال بعضهم نجاة ، وقال بعضهم فصلا وفرقا بينن حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم .
. وكل ذلك متقارب المعنى ، وإن اختلفت العبارة . .
وقال الآلوسى : { فُرْقَاناً } أى : هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل - كما روى عن ابن جريج وابن زيد - أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين - كما قال الفراء - أو نجاة في الدارين - كما هو كلام السدى - أو مخرجا من الشبهات - كما جاء عن مقاتل - أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم - كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق - من بت أفعال كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح . وكل المعانى ترجع إلى الفرق بين أمرين . وجوز البعض من المحققين الجمع بينها .
ونحن مع هذا البعض من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعانى فيكون المعنى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله } بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتطيعوه في السر والعلن { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم ، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس ، ونجاة مما تخافون ، وفضلا عن كل ذلك فإنه - سبحانه - يكفر عنكم سيئاتكم ، أي يسترها عليكم في الدنيا ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أى : ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه وإحسانه وقوله : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييل قصد به التعليل لما قبله ، والتنبيه على أن ما وعد به - سبحانه - المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم ، فهو - سبحانه - صاحب العطاء الجزيل ، والخيرا لعميم . لمن أطاعه واتقاه ، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى ، ومننا كبرى ، وأى نعم يتطلع إليها المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب ؟ اللهم لا تحرمنا من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك ، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم ، وأنت وحدك ذو الفضل العظيم ، وأنت وحدك على كل شئ قدير .
وبعد : فنحن - أخى القارئ - لو استعرضنا سورة الأنفعال من مطلعها إلى هنا ، لرأينا تحدثنا - على سبيل الإِجمال - عن :
( أ ) أحكام الأنفال ، وأن مرد الحكم فيها إلى الله ورسوله . .
( ب ) وعن الصفات الكريمة التي يجب أن يتجلى بها المؤمنون لينالوا مغفرة الله ورضوانه .
( ج ) وعن أحوال بعض المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكانوا يفضلون العير على النفير . ولكن - الله تعالى - بين لهم أن الخير فيما قدره لا فيما يفضلون .
( د ) وعن النعم والبشارات وأسباب النصر التي أمد الله بها المؤمنين في بدر والتى كان من آثارها ارتفاع شأنهم واندحار شأن أعدائهم .
( ه ) وعن التوجيهات الحكيمة التي أعقبت تلك النداءات الخمسة التي نادى الله بها المؤمنين ، فقد أمرهم - سبحانه - بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالطاعة التماة له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالاستجابة السريعة للحق الذي جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
. ونهتهم عن التولى يوم الزحف ؛ وعن التشبه بمن قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وعن إقرار المنكرات والبدع والرضا بهم ، وعن خيانة الله والرسول ، وعن خيانة الأمانات التي تجب صيانتها والمحافظة عليها .
ووعدهم - سبحانه - بهداية القلوب ، وتكفير الخطايا والذنوب ، متى اتقوه ووقفوا عند حدوده .
( و ) والآن ، وبعد هذ التوجيه الحكيم ، والتأديب القويم ، والتعليم النافع والتذكير بالنعم ، والتحذير من النقم . . ماذا نرى ؟
نرى السورة الكريمة تأخذ في تذكير المؤمنين بجوانب من جرائم أعدائهم فتقص عليهم ما كان من هؤلاء الأعداء من تآمر على حياة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ومن تهكم بالقرآن الكريم ودعاء أنهم في استطاعتهم أن يأتوا بمثله لو شاءوا ، ومن استهزاء بتعاليم الإِسلام ، وسخرية بشعائره وعباداته ، ومن إنفاق لأموالهم ليصدوا الناس عن الطريق للحق ، ومن إصرار على العناد والجحود جعلهم يستعجلون العذاب .
ومع كل هذا فالسورة الكريمة تفتح الباب في وجوه هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وتأمر المؤمنين أن ينصحوهم بالدخول في دين الله . . فإذا لم يستجيبوا لنصحهم فعليهم أن يقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ صدقوا الله ورسوله إنْ تَتّقُوا اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، وترك خيانته ، خيانة رسوله وخيانة أماناتكم يَجْعَلْ لَكُم فُرْقانا : يقول : يجعل لكم فصلاً وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين بنصره إياكم عليهم ، وإعطائكم الظفر بهم . ويُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ يقول : ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه . ويَغْفِرْ لَكُمْ يقول : ويغطيها ، فيسترها عليكم ، فلا يؤاخذكم بها . وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ يقول : والله الذي يفعل ذلك بكم ، له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله ، وإن فعله جزاء منه لعبده على طاعته إياه ، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعده عليها .
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا فقال بعضهم : مخرجا ، وقال بعضهم : نجاة ، وقال بعضهم : فصلاً . وكلّ لك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات عنها ، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغني عن إعادته . ذكر من قال : معناه المخرج :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور : عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : مخرجا في الدنيا والاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : الفرقان المخرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فُرْقانا يقول : مخرجا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصريّ ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فُرْقانا قال : مخرجا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : سمعت عبيدا يقول : سمعت الضحاك يقول : فُرْقانا : مخرجا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد ، عن زهير ، عن جابر : عن عكرمة ، قال : الفرقان : المخرج . ذكر من قال : معناه النجاة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن رجل ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال عكرمة : المخرج ، وقال مجاهد : النجاة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا يقول : يجعل لكم نجاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي نجاة .
. . . يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : فرقان يفرق في قلوبهم بين الحقّ والباطل ، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي فصلاً بين الحقّ والباطل ، يظهر به حقكم ويخفي به باطل من خالفكم .
والفرقان في كلام العرب مصدر ، من قولهم : فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما قَرْقا وفُرْقانا .