يقول تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم : يعني شيطانا . { ثُمَّ أَنَابَ } أي : رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته .
قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخرا . قاله ابن عباس ، وقتادة . وقيل : آصف . قاله مجاهد وقيل : آصروا . قاله مجاهد أيضا . وقيل : حبقيق . قاله السدي . وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة .
وقد قال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة : قال أمر سليمان ، عليه السلام ببناء بيت المقدس فقيل له : ابنه ولا يُسمَعُ فيه صوت حديد . فقال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه . فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له : " صخر " شبه المارد . قال : فطلبه وكانت عين في البحر يَردهُا في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجعل فيها خمر ، فجاء يوم ورْده فإذا هو بالخمر فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها{[25125]} فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فَذَلَّ . قال : وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان فقال : إنه قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا : لا يسمعن فيه صوت حديد . قال : فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه . فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة . وكان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء - أو : الحمام - لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة قارف فيه بعض نسائه . قال : فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ، ونزع مُلك سليمان منه وألقي على الشيطان شَبَه سليمان . قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسُلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه . قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فتن نبي الله . وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال : والله لأجربنه . قال : فقال : يا نبي الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي الله - أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا ؟ فقال : لا . قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال : هو الشيطان صخر وقال السدي : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتلينا سليمان ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال : جلس الشيطان على كرسيه أربعين يوما . قال : وكان لسليمان عليه السلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها : " جرادة " ، وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فقال : هاتي الخاتم . فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا . وخرج مكانه تائها . قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما ، قال : فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوا فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوا . قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه . ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر . قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه . فاستطعمهم من صيدهم وقال : إني أنا سليمان . فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته . قال : إنه زعم أنه سليمان . قال : فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شط البحر فشق بطونهما فجعل يغسل دمه فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه السلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا به فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه . قال : فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة . وكان اسمه حبقيق قال : وسخر له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله : { وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال : شيطانا يقال له : آصف . فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن - ولم يقربنه وأنكرنه . قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا فجعل يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر فارا .
وهذه كلها من الإسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا : حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } قال : أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه - فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي . فأعطته إياه . فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها : هاتي خاتمي . قالت : قد أعطيته سليمان . قال : أنا سليمان . قالت : كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له : " أنا سليمان " ، إلا كذبه حتي جعل الصبيان يرمونه بالحجارة . فلما رأى ذلك عَرَف أنه من أمر الله عز وجل . قال : وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان . قال : فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : أتنكرن من سليمان شيئاً ؟ قلن : نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك . فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس . وقالوا : هذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه السلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطانُ بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته . وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك ؟ فقال : نعم . قال : بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك . قال : فحمل سليمان عليه السلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه . قال : فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وَهَرب الشيطان حتى دخل جزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص قال : فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان ، فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } قال : يعني الشيطان الذي كان سلط عليه .
إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفاً وتكريماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف ، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متُلقًّاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب .
وقال يحيى بن أبي عمرو السيباني : وجد سليمان خاتمه في عسقلان ، فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله عز وجل ، رواه ابن أبي حاتم .
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال : حدثنا أبي رحمه الله ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار ؛ أنه لما فرغ من حديث " إرم ذات العماد " قال له معاوية : يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ؛ ومن أي شيء هو ؟ فقال : كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مُفَصّصاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ . وقد جُعل له درجة منها مُفَصّصة بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحُفّ من جانبيه بالنخل ، نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ . وجعل على رءوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب ، ثم جعل على رءوس النخل التي على يسار الكرسي نسور من ذهب مقابلة الطواويس ، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتا صنوبر من ذهب ، وعن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودان من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر . ثم جُعل فوق دَرَج الكرسي أسَدَان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا . فإذا أراد سليمان أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه السلام ، ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان . ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد ، فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ، ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد [ سليمان ] على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة . فقال معاوية رضي الله عنه : وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال : تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسْدُ والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان [ ابن داود ] عليه السلام وهو جالس ثم ينضحن جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان عليه السلام . ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراةَ فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان على الناس . وذكر تمام الخبر وهو غريب جدا .
ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه ، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه : إن أخي له خصومة ، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا بشيء غير الحق ، فقال سليمان عليه السلام : أفعل ، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنياً ، وذلك أن سليمان عليه السلام كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك ، توقيراً لاسم الله تعالى ، فكان يضعه عند امرأة من نسائه ، ففعل ذلك يوماً ، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس . وقيل غير هذا ما اختصرناه لعدم الصحة ، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك سليمان ، وبقي فيه أربعين يوماً ، وطرح خاتم سليمان في البحر ، وجعل يعبث في بني إسرائيل ، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله ، ومكنه الله تعالى من جميع الملك .
قال مجاهد : إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن ، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فاراً على وجهه منكراً ، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه ، وأدركه جوع وفاقة فمر يوماً بامرأة تغسل حوتاً فسألها منه لجوعه ، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين ، فجعل يفتح أجوافها ، وإذا خاتمه في جوف أحدهما ، فعاد إليه ملكه ، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم بدعوته ، وفي صخر الجني . فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة ، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة ، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها .
واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فقال الجمهور : هو الجني المذكور ، سماه { جسداً } لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان ولبس به . قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى . وقالت فرقة : بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت . وقالت فرقة : بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه . وقال قوم : مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح ، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية و { أناب } معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه ، ومعنى هذا من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها .
قد قلت آنفاً عند قوله تعالى : { ووهبنا لداود سليمان } [ ص : 30 ] إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإِرشاد بالترغيب والترهيب ، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته ، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة . والفَتن والفتون والفتنة : اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { إنما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) .
وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان ، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه ، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه . ومن أغربها قولهم : إنه ولد له ابن فخاف عليه الناسَ أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه دَرّ ماء المُزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت . وهذا ما نظمه المعري تبعاً لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان :
خَاف غدْر الأنامِ فاستودع الري *** حَ سَليلاً تغذوه دَرَّ العِهَــاد
وتوخّى النجاةَ وقـــــد أيْ *** قَنَ أن الحِمام بالمرصــاد
فرمتْه بـــه على جَانب الكُر *** سِيِّ أمّ اللّهَيْــم أُخْتُ النّآد{[354]}
والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى : { وألقينا على كرسيه جسداً } إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله : { ثمَّ أنابَ } بذلك .
ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته . وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما في « صحيح البخاري » « عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال سليمان لأَطُوفَنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشقِّ رَجل ، وأيْم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » . وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديثَ في التفسير من كتابيهما . قال جماعة : فذلك النصف من الإِنسان هو الجَسد الملقَى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه ، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبُه .
وإطلاق الجسد على ذلك المولود ؛ إمّا لأنه وُلِد ميتاً ، كما هو ظاهر قوله : « شق رجل » ، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد . وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّاً ولا أنه جلس على كرسي سليمان . وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلّف .
وقال وهب بن منبه وشَهْر بن حَوْشَب : تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها ، وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر ، وقيل : كانت تعبد صنماً لها من ياقوت خُفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم . وهذا القول مختزل مما وقع في « سفر الملوك » الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإِصحاح الحادي عشر : وأحَب سليمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات ، وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل : لا تدخلون إليهم لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم . فبنى هيكلاً للصنم ( كموش ) صنَم المؤابيين على الجبل الذي تُجاه أورشليم فقال الله له : من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقاً وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سِبطاً واحداً الخ .
ويؤخذ من ذلك كله : أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدْن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدْنَ فيها فلم يرضَ الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبيء أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة لا يتجاوز إليه .
وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جَسداً في قوله : { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } ( طه : 88 .
( ويكون معنى إلقائه على كرسيّه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه .
وعطف { ثُمَّ أنابَ } بحرف { ثمّ } المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإِنابة أعظم ذكر في قوله : { فقال إنِّي أحببتُ حُبَّ الخيرِ } [ ص : 32 ] . والإِنابة : التوبة .