اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } قال بعض المفسرين : إن سليمان - عليه ( الصلاة و ) السلام- بلغهُ خبرُ مدينة في البحر يقال لها : صيد ، فخرج إليها بجنوده فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتاً له اسمها : «جرادة » من أحسن الناس وجهاً فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبَّها فكانت تبكي على أبيها ، فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بُكْرةً وعَشِيًّا مع جواريها يَسْجُدُونَ لها فأخبر «آصف » سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرّماد وجلس عليه تائباً لله تعالى ، وكانت له أم ولد يُقال لها : الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه موضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة «سليمان » وقال لها يا أمينة : خاتمي فناولته الخاتم فَتَختَّم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وتغيرت هيئة سليمان فأتى الأمينة لطلب الخاتم فأنكرته فعلم أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان حَثَوا عليه التراب وسَبُّوه ، وأخذ ينقل السمك للسَّماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقُلْن : ما يدع امرأة منا في دمها ولا تغتسل من جنابة ، وقيل : بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ، ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله تعالى ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان فحبسه في صخرة وألقاها في البحر .

وقيل : إن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتُبْ إلى الله تعالى .

وقيل : إن سليمان قال لبعض الشياطين : كيف تفتنون الناس : فقال : أرني خاتَمَكَ أُخْبِرْك ، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر ، وذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى آخرها فقالوا : المراد من قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أن الله تعالى ابتلاه ، وقوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً } عقوبة له . قال ابن الخطيب : واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه :

الأول : أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى وموسى - عليهم ( الصلاة و ) السلام - ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال . وذلك يبطل الدين بالكلية .

الثاني : أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تَصَانِيفَهُمْ ، ويُخَرِّب دِيَارَهُم . ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولَى .

الثالث : كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ؟ ( ولا شك أنه قبيح .

الرابع : لو قلنا : إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادتها تلك الصورة فهذا كفر منه وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه ؟

وأما أهل التحقيق فذكروا وجوهاً :

الأول : أن فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ابنٌ فقال الشيطان إن عاش صار ملكاً مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك الولد ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يَثِقْ ويتوكلْ على الله فاستغفر ربه وتاب .

الثاني : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : «قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً كُلُّ امْرَأةٍ تَأتِي بِفَارسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَم يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَافَ عَلَيْهنّ فَلَمْ تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رَجل والذي نفسي بِيَدِهِ لو قال إن شاء الله تعالى لَجَاهَدوا في سبيل الله فُرْسَاناً أجْمَعِينَ »

فذَلك قولهُ تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً } وذلك لشدة المرض . والعرب تقول في الضعيف : «إنه لَحْمٌ على وَضَم وجسمٌ بلاَ رُوح » . «ثُمَّ أَنَاب » أي رَجَعَ إلى حال الصحة . فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة .

الثالث : لا يبعد أيضاً أن يقال : إنه ابْتَلاه الله تعالى بتسليط خوفٍ أو وقوع بلاء تَوَقَّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجَسَدِ الضعيف الخفي على ذلك الكرسي . ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب .

قوله : { جَسَداً } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به لأَلْقَيْنَا .

والثاني : أنه حال ، وصاحبها إما سُلَيْمَانُ لأنه يروى أنه مَرِضَ حتى صار كالجَسَد الذي لا رُوحَ فيه ، وإما ولده ، قالهما أبو البقاء ولكن «جَسَدٌ » جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفاً أو فارغاً .