لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

قوله عزَّ وجلَّ : { ولقد فتنا سليمان } أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون وبها ملك عظيم الشأن ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان الله تعالى قد أتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشقَّ ذلك على سليمان ، فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ ، قالت : إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك فقال سليمان : فقد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك قالت إن ذلك كذلك ولكني إذ ذكرته أصابني ما تراه من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين ، فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئاً فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه وتروح في كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً . وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً له وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضراً سليمان أو غائباً ، فأتاه فقال : يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم . فقال : افعل فجمع له سليمان الناس ، فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى وأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله تعالى به حتى انتهى إلى سليمان فقال : ما كان أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك ثم انصرف ، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملئ غضباً فلما دخل سليمان داره دعاه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيراً في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري ؟ قال آصف : إنَّ غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة ، فقال سليمان في داري ؟ قال : في دارك قال : فإنا لله وإنا إليه راجعون قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك .

ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائباً إلى الله تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك به في ثيابه تذللاً إلى الله تعالى وتضرعاً إليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد يقال لها أمينة كان إذا دخل الخلاء أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوماً عندها ثم دخل مذهبه ، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد في صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً فقال : خاتمي أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغيرت حالته وهيأته عند كل من رآه فقال : يا أمينة خاتمي قالت من أنت قال سليمان بن داود فقالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان . فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين فإذ أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوي الأخرى فيأكلها .

فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدة ما كان يعبد الوثن في داره ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم قالوا نعم فقال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم فدخل على نسائه فقال : ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا ؟ فقلن : أشده ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من الجنابة ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . قال الحسن : ما كان الله سبحانه وتعالى ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلى الله عليه وسلم قال وهب : ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أشد مما في العامة فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه فلما أمسى أعطاه سمكتيه فباع سليمان إحداهما بأرغفة وبقر بطن الأخرى ليشويها ، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده ووقع لله ساجداً وعكفت عليه الطير والجن وأقبل الناس عليه وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فطلبوه حتى أخذوه فأتي به فأدخله في جوف صخرة وسدَّ عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذفوه في البحر . وقيل في سبب فتنة سليمان عليه الصلاة والسلام أن جرادة كانت أبرَّ نسائه عنده وكان يأتمنها على خاتمه ، فقالت له يوماً إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله نعم وذكروا نحو ما تقدم .

وقيل إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده فأعاده في يده ، فسقط وكان فيه ملكه فأيقن سليمان بالفتنة فأتاه آصف فقال : إنك مفتون بذلك والخاتم لا يتماسك في يدك ففرَّ إلى الله تعالى تائباً فإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك . ففر سليمان إلى الله تعالى تائباً وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت في يده فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه وتاب عليه فرجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده فثبت فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه . وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله تعالى وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه ، قال القاضي عياض وغيره من المحققين : لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه وإن الشياطين لا يسلطون على مثله هذا وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا ، والذي ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الله الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين " وفي رواية لأطوفنَّ بمائة امرأة فقال له الملك قل إن شاء الله ، فلم يقل ونسي قال العلماء والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه وقيل إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفاً من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذا ألقى ذلك الولد ميتاً على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشياطين ولم يتوكل عليه في ذلك ، فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل : { وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب } أي رجع إلى ملكه بعد الأربعين يوماً وقيل أناب إلى الاستغفار وهو قوله : { قال رب اغفر لي } .