الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

وقوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } : اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أن الناسَ قَدْ أَكْثَرُوا في قَصَصِ هذهِ الآيةِ بما لاَ يُوقَفُ على صِحَّتِه ، وحكى الثعلبي في بعض الروايات ؛ أنَّ سليمانَ عليه السلام لَما فُتِنَ ، سَقَطَ الخَاتَمُ مِنْ يَدِه ، وَكَانَ فِيه مُلْكُهُ ، فأعاده إلى يده ، فَسَقَطَ ؛ وأَيْقَنَ بالفتنة ، وأَنَّ آصِف بْنَ بَرْخِيَّا قال له : يا نبيَّ اللَّهِ ، إنَّكَ مَفْتُونٌ ؛ ولذلكَ لاَ يَتَمَاسَكُ الخَاتَمُ فِي يَدِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْماً ؛ فَفِرَّ إلى اللَّهِ تعالى تَائِباً مِنْ ذَنْبِكَ ، وَأَنَا أَقُومُ مَقَامَكَ في عَالَمِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى إلى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكَ ، فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِباً إلى رَبِّهِ مُنْفَرِداً لِعِبَادَتِهِ ، وأَخَذَ آصِفُ الخَاتَمَ ، فَوَضَعَهُ في يدِه ، فَثَبَتَ ، وقيلَ : إن الجَسَدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً } هُو آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ ، وهو الذي عندَه عِلْمٌ مِن الكتَابِ ، وأقام آصِفُ في ملكِ سليمانَ وعيالِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ الحسَنةِ ، ويَعْمَلُ بِعَمَلِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يوماً إلى أَنْ رَجَعَ سليمانُ إلى منزله تائِباً إلى اللَّه تعالى ، ورَدَّ اللَّه تعالى عليه مُلْكَهُ ، فأَقَامَ آصِفُ عن مجلسهِ ، وجَلَسَ سليمانُ على كُرْسِيِّهِ ، وأعادَ الخاتَمَ .

وقالَ سَعِيدُ بن المسيِِّب : إن سليمانَ بنَ دَاوُدَ عليهمَا السلامُ احتجب عنِ الناسِ ثلاثةَ أَيَّامٍ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : أَنْ يا سُلَيْمَانُ ، احتجبت عنِ الناسِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ، فَلَمْ تَنْظُرْ في أمُورِ عِبَادِي ، ولم تُنْصِفْ مَظْلُوماً مِنْ ظَالِمٍ ، وذكر حديثَ الخاتم كما تقدَّم ، انتهى . وهذَا الذي نقلناه أشْبَهُ ما ذُكِرَ ، وأَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ ؛ واللَّه أعلم .

وقال عِيَاضٌ : قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } معناه : ابتَلَيْنَاهُ ، وابتلاؤه : هُو مَا حُكِي في الصحيحِ أنه قال : " لأَطُوفَنَّ الليلةَ على مِائَةِ امرأة كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجِاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَقُلْ : ( إنْ شَاءَ اللَّهُ ) تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ " ، الحديث . قال أصحابُ المعانِي : والشِّقُّ هو الجسدُ الذي أُلْقِيَ على كرسيه حين عُرِضَ عليه ؛ وهي كانتْ عقوبتُهُ ومحنته ، وقيل : بَلْ مَاتَ ، وألْقِيَ على كُرْسِيِّهِ مَيِّتاً ، وأما عَدَمُ استثْنَائِه ، فأحْسَنُ الأجوبةِ عنه ، ما رُوِيَ في الحديثِ الصحيح أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ : ( إنْ شَاءَ اللَّهُ ) ، ولاَ يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الإخباريُون من تَشَبُّه الشيطانِ به وتسَلُّطِهِ على مُلْكِهِ ، وتصرُّفِه في أمَّتِه ؛ لأن الشَيَاطِينَ لاَ يُسَلَّطُونَ على مِثْلِ هذا ، وقد عُصِمَ الأنبياءُ من مثله ، انتهى . ( ت ) : قالَ ابن العربي : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً } يَعني جسدَه لا أجْسَادَ الشَّيَاطينِ ؛ كما يقولُه الضعفاءُ ، انتهى من كتاب «تفسير الأفعال » له . قال ابنُ العربيِّ في «أحكامَه » : وما ذكره بعضُ المفسِّرينَ مِنْ أن الشيطان أخذَ خاتَمَهُ ، وجَلَسَ مجلسَه ، وحَكمَ الخَلْقَ على لسانِه قولٌ باطلٌ قَطْعاً ؛ لأن الشياطينَ لا يَتَصَوَّرُونَ بِصُوَرِ الأَنْبِيَاءِ ؛ ولا يُمَكَّنُونَ من ذلك ؛ حتى يظنَّ الناسُ أنَّهم مع نبيِّهم في حَقٍّ ، وهم مَعَ الشياطينِ في بَاطِلٍ ؛ ولو شاءَ ربُّكَ لوَهَبَ من المعرفةِ والدِّينِ لمنْ قَالَ هذا القولَ ما يَزَعُهُ عن ذِكْرِهِ ، ويَمْنَعُهُ مِن أَنْ يَسْطُرَهُ في دِيوَان من بعده ، انتهى .