الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

ثم قال تعالى ذكره : { ولقد فتنا سليمان } أي : اختبرناه وابتليناه .

{ وألقينا على كرسيه جسدا } أي : شيطانا مثل بإنسان .

ذكر أن اسمه صخر الجني ، قاله ابن عباس{[58296]} ، قال : الجسد : الجِنِّي الذي دفع إليه سليمان خاتمه فقذفه في البحر . وكان ملك سليمان في خاتمه . وهو قول الحسن وابن جبير ومجاهد{[58297]} .

قال مجاهد : فقعد الجني على كرسي سليمان ، ومنعه الله من نساء سليمان فلم يقربنه وأنكرنه .

قال مجاهد : قال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك / أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فساح{[58298]} سليمان وذهب ملكه . فكان سليمان يستطعم الناس فيقول : أتعرفوني ؟ ‍ ! أطعموني ، أنا سليمان ! فيكذبونه حتى{[58299]} أطعمته امرأة يوما حوتا فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه{[58300]} ملكه وفر الجني في البحر . وكان مدة ذلك فيما ذكر : أربعين يوما{[58301]} .

وقال قتادة : ( أمر سليمان ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابْنِه ، ولا يُسمع فيه صوت حديد . فطلب ( علم ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له صخر ، سيد الماردين . قال : فطلبه ){[58302]} . وكانت{[58303]} عين في البحر يَرُدها ذلك الشيطان في كل سبعة أيام مرة{[58304]} فنزح ماؤها وجُعل فيه خمر . فجاء يوم وروده{[58305]} فإذا هو بالخمر ، فقال : إنَّك لشراب طيب ، إلا أنَّكِ تُصْبِينَ{[58306]} الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً ! ( قال : ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك لتصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا ! ){[58307]} ثم شربها حتى غلبت على عقله . قال : فأُريَ الخاتم ، أو ختم به بين كتفيه فَذُلَّ – وكان ملك سليمان في خاتمه – فقال : إنا قد أمِرْنَا ببناء هذا البيت ، وقيل لنا : لا يسمعن فيه صوت حديد . قال : فأتى إلى بيض الهدهد فجعل عليه زجاجة ، فجاء الهدهد فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر ( عليه فذهب فجاء ){[58308]} بالماس فوضعه على الزجاجة فقطعها به حتى أفضى إلى بيضة . فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة . فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء لم يدخل بخاتمه ، فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان معه – وذلك عند مقارفة ذنب قارفه بعض نسائه – قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ، فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ، ونزع ملك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه سليمان{[58309]} فجاء فقعد على كرسيه ، وسُلِّطَ على مُلك سليمان كله غير نسائه . فكان{[58310]} يقضي بين الناس ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فتن سليمان نبي الله . وكان ( فيهم رجل فيه{[58311]} قوة ) فقال : والله لأجربنه فقال له : يا نبي الله – وهو لا يرى إلا أنه نبي – أحدنا تصيبه الجنابة ( من الليل ){[58312]} في الليلة الباردة{[58313]} فيدع الغسل مستعمدا حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا ؟ قال : لا .

قال : فبينما هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله سليمان خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ){[58314]} .

وذكر السدي في هذه القصة مثل ذلك إلا أنه قال : ( كانت لسليمان مائة امرأة ، امرأة منهن يقال لها{[58315]} جرادة – وهي أعَزُّ نسائه عنده وآمَنَهُنَّ{[58316]} – وكان يترك الخاتم عندها إذا دخل الخلاء ، فجاءته يوما ( من الأيام ){[58317]} فسألته أن يقضي لأخيها في خصومة بينه{[58318]} وبين رجل ، فقال لها : نعم ، ولم يفعل ، فابتلي . فأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فأتاها{[58319]} الشيطان في صورة{[58320]} سليمان فأعطته الخاتم فذهب ملك سليمان وجلس الشيطان على كرسي سليمان أربعين يوما يحكم بين الناس ، فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع علماء بني إسرائيل فدخلوا على نساء سليمان فقالوا : إنا قد أنكرناه . فإن كان هذا سليمان فقد ذهب عقله ! فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرؤوا ، فطار بين أيديهم حتى وقع على شرفة{[58321]} والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه ، فابتلعه حوتٌ . قال : وأقبل سليمان في حاله{[58322]} التي كان فيها وهو جائع حتى انتهى إلى صياد من صيادي{[58323]} البحر فاستطعمه من صيده . فقال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشج وجهه ، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر . فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، ثم أعطوا سليمان سمكتين مما قد مَذَرَ عندهم – أي : نتن{[58324]} – فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق{[58325]} بطونهما ، فجعل يغسل ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه ولبسه فَرَدَّ الله عليه بهاءه ومُلكه . وجاءت الطير حتى حامت{[58326]} عليه فعرف / القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال : ( ما أحببكم{[58327]} ) على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه . فجاء حتى أتى مُلكه ، فأرسل إلى الشيطان فجيء به – وسخر له الريح والشياطين يومئذ ( ولم يسخر ){[58328]} له قبل ذلك – فجعل الشيطان في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أَمَرَ{[58329]} ، فألقي في البحر ، فهو فيه حتى تقوم الساعة ){[58330]} وقيل : أنه{[58331]} ولد له ولد ميت ، وذلك أنه طاف على ( جوار له{[58332]} ) وقال : أرجوا أن تلد كل واحدة منهن ( ذكرا ، ولم يقل : إن شاء الله ، فلم تحمل إلا واحدة منهن{[58333]} ) ومات الولد وألقي على كرسيه{[58334]} .

وقوله : { ثم أناب } أي : ثم أناب سليمان فرجع إلى ملكه بعد زواله عنه .

قال الضحاك : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك فاشترى منها سمكة فشق بطنها فوجد خاتمه ، فجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة ( ولا شيء ){[58335]} إلا سجد له ، ثم أوتي مُلكه وأهله ، فذلك قوله تعالى{[58336]} : { ثم أناب } أي : رجع{[58337]} .

وقيل : ( أناب ) [ تاب ورجع عما كان عليه{[58338]} .


[58296]:انظر: جامع البيان 23/100 وفتح الباري 6/459، وجامع القرطبي 15/199، وتفسير ابن كثير 4/35.
[58297]:انظر: جامع البيان 23/100، وتفسير ابن كثير 4/35.
[58298]:ح: فصاح.
[58299]:ع: وحتى.
[58300]:ح: الله.
[58301]:انظر: تفسير مجاهد 2/550، وجامع البيان 23/100، وتفسير ابن كثير 4/36 ثم عقب على هذا القول بقوله: (وهذه كلها من الإسرائيليات).
[58302]:ساقط من ح.
[58303]:ح: فكانت.
[58304]:ساقط من ح.
[58305]:ح: ورودة.
[58306]:ح: تصير.
[58307]:ساقط من ح.
[58308]:متآكل في ح.
[58309]:أنكر العلماء القول بأن الشيطان تمثل بصورة سليمان واعتبروه ضربا من الدجل لأن هذه الأخبار تستند على أسانيد أوهن من بيت العنكبوت، حيث يرون (أن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية) روح المعاني 23/99. وقال القرطبي: (وقد ضعف هذا القول من حيث أن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء) انظر: جامع القرطبي 15/201، وانظر: الشفا 2/162.
[58310]:ح: فجعل.
[58311]:ح: رجل فيهم قوة.
[58312]:ساقط من ح.
[58313]:ح: الباردة.
[58314]:انظر: جامع البيان 23/101، وتفسير ابن كثير 4/35 وورد هذا القول في الكشف والبيان عن قتادة ومقاتل مختصرا. ثم عن علي بن سليمان مع زيادة ونقص.
[58315]:ساقط من ح.
[58316]:ح: وأمهن.
[58317]:ساقط من ح.
[58318]:ع: بينها.
[58319]:ح: فأتى.
[58320]:ع: سورة وهو تحريف.
[58321]:ح: فرشة.
[58322]:ح: حالته.
[58323]:ح: صياد.
[58324]:ساقط من ح.
[58325]:ع: لشق.
[58326]:ج: قامت.
[58327]:ح: ما أجيبكم وفي جامع البيان، والكشف والبيان: ما أحمدكم.
[58328]:ح: (ولم تكن سخرت).
[58329]:ح: أمر به.
[58330]:انظر: جامع البيان 23/101، وتفسير ابن كثير 4/36، والكشف والبيان 235.
[58331]:ساقط من ح.
[58332]:في طرة ع.
[58333]:ساقط من ح.
[58334]:انظر: إعراب النحاس 3/463، والمحرر الوجيز 14/34، والكشف والبيان 236. وأخرج الحميدي في مسنده 2/494 ح 1174 عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حلف سليمان بن داود فقال: لأطيفن الليلة بسبعين امرأة كلهن تجيء بغلام يقاتل في سبيل الله عز وجل، فقال له صاحبه، أو قال له الملك: قل: إن شاء الله، فنسي، فطاف بسبعين امرأة فلم تجيء واحدة منهن بشيء إلا واحدة جاءت بشق غلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لما حنث ولكان دركا في حاجته".
[58335]:في طرة ع.
[58336]:ساقط من ح.
[58337]:انظر: جامع البيان 23/102.
[58338]:ورد في الدر المنثور 7/181 عن قتادة.