{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه {[26594]} إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ؛ ولهذا قال{[26595]} { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ }
وقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل : إن " من " هاهنا زائدة وفيه نظر ؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل ، وقيل : إنها على بابها للتبغيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : ويقيكم من عذابه الأليم .
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : حدثت عن جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لا يدخل مؤمنو الجن الجنة ؛ لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة .
والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة{[26596]} من السلف ، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 74 ] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 46 ، 47 ] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس ، فقالوا : " ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد " فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار - وهو مقام عدل - فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة - وهو مقام فَضْل - بطريق الأولى والأحرى . ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [ الكهف : 107 ] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ، ولله الحمد والمنة . وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا ، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة . ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن {[26597]} الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح ، عليه السلام ، يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ نوح : 4 ] ، {[26598]} ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عُمَر بن عبد العزيز : أنهم لا يدخلون بُحْبُوحَةَ الجنة ، وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها . ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا . ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ، عِوَضا عن الطعام والشراب كالملائكة ، لأنهم من جنسهم . وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها .
إعادتهم نداءَ قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو { أجيبوا داعي الله } إلى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا ، ولأن اختلاف الأغراض وتجدّد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله : « أيها الناس » كما وقع في خطبة حجة الوداع . واستعير { أجيبوا } لمعنى : اعملوا وتقلدوا تشبيهاً للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية : { إلا أن دعوتُكم فاستَجَبْتُم لي } [ إبراهيم : 22 ] أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء ، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه .
وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم : { إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى } . وأطلق على القرآن { داعي الله } مجازاً لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله ، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه { داعي الله } على طريقة التّبعيّة وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل . ويجوز أن يكون { داعي الله } محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن . وعطف { وآمنوا به } على { أجيبوا داعي الله } عطف خاص على عام .
وضمير { به } عائد إلى { الله } ، أي وآمنوا بالله ، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع { يغفر لكم } و { يُجرْكم من عذاب أليم } أو عائد إلى داعي الله ، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به ، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام .
و { مِن } في قوله : { من ذنوبكم } الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل { أجيبوا } باعتبار أنه مجاب بفعل { يغفر } ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازاً في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه . ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة { من } في الإثبات كما تزاد في النفي . وأما { مِن } التي في قوله : { ويُجِرْكُم من عذاب أليم } فهي لتعدية فعل { يجركم } لأنه يقال : أجاره من ظلم فلان ، بمعنى منعه وأبعده .
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكاً للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك ، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس .
وهؤلاء قد نبهوا إليها بصَرْفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبَّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [ السجدة : 13 ] ، وقال في خطاب الشيطان { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] ، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ . وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون . واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة : ليس للجن ثواب إلا أن يُجَاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك : كما يجازَون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة . وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أرَه لغيره . وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالِم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها .