قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص : أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره : أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ عين فليقرأ : " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " ، و " وإذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " ، و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن العباس بن عبد العظيم العنبري ، عن عبد الرزاق ، به{[1]} .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } يعني : أظلمت . وقال العوفي ، عنه : ذهبت ، وقال مجاهد : اضمحَلّت وذَهَبت . وكذا قال الضحاك .
وقال قتادة : ذهب ضوءها . وقال سعيد بن جبير : { كُوِّرَتْ } غُوّرت .
وقال الربيع بن خُثَيم : { كُوِّرَتْ } يعني : رمى بها .
وقال أبو صالح : { كُوِّرَتْ } ألقيت . وعنه أيضا : نكست . وقال زيد بن أسلم : تقع في الأرض .
قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جَمعُ الشيء بعضه إلى{[29732]} بعض ، ومنه تكوير العمامة [ وهو لفها على الرأس ، وكتكوير الكاره ، وهي ]{[29733]} جمع الثياب بعضها إلى{[29734]} بعض ، فمعنى قوله : { كُوَّرَتْ } جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفت فرمى بها ، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها{[29735]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، عن شيخ من بَجِيلة ، عن ابن عباس : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال : يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ، ويبعث الله ريحا دبورًا فتضرمها نارا . وكذا قال عامر الشعبي . ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن ابن يزيد بن أبي مريم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال : " كورت في جهنم " {[29736]} .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن محمد بن حَيَّان ، حدثنا دُرُسْتُ بن زياد ، حدثنا يزيد الرقاشي ، حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشمس والقمر ثوران{[29737]} عقيران في النار " {[29738]} .
هذا حديث ضعيف ؛ لأن يزيد الرقاشي ضعيف ، والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة ، ثم قال البخاري :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا عبد الله الداناجُ ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الشمس والقمر يكوران يوم القيامة " {[29739]} .
انفرد به البخاري وهذا لفظه ، وإنما أخرجه في كتاب " بدء الخلق " ، وكان جديرًا أن يذكره هاهنا أو يكرره ، كما هي عادته في أمثاله ! وقد رواه البزار فَجَوّد إيراده فقال :
حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد - مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فَحدّث قال : حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشمس والقمر نوران في النار يوم القيامة " . فقال الحسن : وما ذنبهما ؟ فقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : أحسبه قال : وما ذنبهما .
ثم قال : لا يروى عن أبي هُرَيرة إلا من هذا الوجه ، ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث .
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها تسمية صريحة . وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها ، فتعين أن المعنى : فليقرأ هذه الآيات ، وعنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي { سورة إذا الشمس كورت } ، وكذلك عنونها الطبري .
وأكثر التفاسير يسمونها { سورة التكوير } وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول { كورت } .
وتسمى { سورة كورت } تسمية بحكاية لفظ وقع فيها . ولم يعدها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم .
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى .
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا .
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال تقع عقبه .
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان .
الافتتاح ب { ذا } افتتاح مشوِّق لأن { إذا } ظرف يستدعي متعلَّقاً ، ولأنه أيضاً شرط يؤذن بذكر جَواب بعده ، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكّن ، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة { إذا } .
وتعدّدِ الجمل التي أضيف إليها اثنتيْ عشرة مرة ، فإعادة كلمة { إذا } بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب ، وهذا الإِطناب اقتضاهُ قصد التهويل ، والتهويل من مقتضيات الإِطناب والتكرير ، كما في قصيدة الحارث بن عَبَّاد البَكري :
وفي إعادة { إذا } إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث .
وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثاً فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية ، وستة منها تحصل في الآخرة .
وكانت الجمل التي جعلت شروطاً ل { إذا } في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبَر عنه بمسندٍ فعْلِيَ دون كونها جملاً فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد قول نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط { إذا } جملة غيرَ فعلية وهو الراجع لأن { إذا } غير عريقة في الشرط . وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروطاً ل { إذا } لأن الابتداء بها أدخل في التهويل والتشويق وليفيد ذلك التقديمُ على المسند الفعلي تَقَوِّيَ الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل رداً على إنكار منكريه فلذلك قيل : { إذا الشمس كورت } ولم يقل : إذا كورت الشمس ، وهكذا نظائره .
وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله : { علمت نفس ما أحضرت } وتتعلق به الظروف المشْرَبة معنى الشرط .
وصيغة الماضي في الجمل الثِنْتَي عشرة الواردة شروطاً ل { إذا } مستعملةٌ في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوع الشرط .
وتكوير الشمس : فساد جِرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها ، من قولهم : كَوَّر العمامة ، إذا أدخل بعضها في بعض ولفّها ، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطيّ في قوله تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب } [ الأنبياء : 104 ] .
وفسر { كورت } بمعنى غورت . رواهُ الطبري عن ابن جبير وقال : هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كُور بِكْر ( بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة ) وعلى ذلك عُدّت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرّب . وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن .
وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها .