تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة التكوير

أهداف سورة التكوير

( سورة التكوير مكية ، وآياتها 29 آية ، نزلت بعد سورة المسد )

وتشتمل سورة التكوير على ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة في هذا الكون ، حين تنتهي الحياة ، ويختل نظامها ، وينفرط عقد الكون وتتناثر أجزاؤه ، ويذهب عنه التماسك الموزون والحركة المضبوطة ، والصنعة المتينة .

والسورة تشتمل على مقطعين اثنين ، تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة :

الأولى : حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم ، والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان .

والثانية : حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم وأنزلت لهم الوحي .

مع آيات السورة

بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة ، وما يكون فيه من أحداث هائلة ، وحين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل خيرا كان أو شرا .

1- إذا كورت الشمس وسقطت وتدهورت ، وانطفأت شعلتها ، وانكمشت ألسنتها الملهبة ، وذهب ضوءها ، واختل نظام الكون .

2- وإذا تناثرت النجوم ، وأظلم نورها ، وذهب لألاؤها .

3- وإذا انفصلت الجبال عن الأرض ، وسارت في الجو كما يسير السحاب ، وتبع ذلك نسفها وبسها وتذريتها في الهواء ، كما جاء في سورة طه : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا . ( طه : 105 ) .

4- وإذا تركت العشار وأهملت ، والعشار : هي النوق الحبالى في شهرها العاشر ، وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي ، فإذا انشغل الناس عنها بأهوال القيامة عطلت وأهملت .

5- وإذا اجتمعت الوحوش الكاسرة ذليلة هادئة قد نسيت غريزتها ، مضت هائمة على وجوهها لا تأوي إلى جحورها ، ولا تنطلق وراء فرائسها ، وقد حشرها هول الموقف ذاهلة متغيرة الطباع ، فكيف بالناس في ذلك اليوم العصيب ؟

6- وإذا التهبت البحار وامتلأت نارا ، أو فجرت الزلازل ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا .

7- وإذا اقترنت الأرواح بأبدانها ، أو إذا قرن كل شبيه بشبيهه ، وضمت كل جماعة من الأٍرواح المتجانسة في مجموعة .

8 ، 9- وإذا سئلت الموءودة بين يدي قاتلها عن السبب الذي لأجله قتلت ، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد ، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته .

وقد افتنّ العرب في الوأد ، وكان الوأد يتم في صورة قاسية ، إذ كانت تدفن البنت حية ، أو تجلس المرأة عند المخاض فوق بئر محفورة ، فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها ، وإن كان ذكرا قامت به معها ، وبعضهم كان إذا عزم على استبقاء بنته فإنه يمسكها إلى أن تقدر على الرعي ، ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ، ويرسلها إلى البادية ترعى له إبله ، فلما جاء الإسلام سما بالمرأة وكرمها ، وليدة وناشئة وزوجة وأمّا ، وحرّم وأد البنات وشفع بالتشنيع على من يفعله .

قال تعالى : وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم* يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون . ( النحل : 58 ، 59 ) .

10- وإذا نشرت صحف الأعمال ، وكشفت وعرفت فلم تعد مستورة بل صارت منشودة مشهورة .

11- وإذا السماء كشطت وأزيلت ، فلم يبق غطاء ولا سماء .

12 ، 13- وإذا أوقدت النار واشتد لهيبها ووهجها وحرارتها ، وإذا أدنيت الجنة من المتقين تكريما وإيناسا لهم .

14-عندما تقع هذه الأحداث الهائلة في كيان الكون ، وفي أحوال الأحياء والأشياء ، علمت كل نفس ما قدمت من خير أو شر ، وما تزودت به لهذا اليوم ، وما حملت معها للعرض ، وما أحضرت للحساب ، وهي لا تستطيع أن تغير فيه ولا أن تبدل ، فالدنيا عمل ولا حساب ، والآخرة حساب ولا عمل .

وهنا ينتهي المقطع الأول من السورة ، وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .

المقطع الثاني

بعد أن ذكرت السورة من أحوال القيامة وأهوالها ما ذكرت ، أتبعت ذلك ببيان أن ما يحدثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم الذي أنزل عليه ، وهو آيات بينات من الهدى ، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم : إنه ساحر أو مجنون أو كذاب أو شاعر ، ما هو إلا محض افتراء .

15 ، 16- يقسم الله تعالى قسما مؤكدا بالكواكب الخنّس : التي تخنس ، أي ترجع في دورتها الفلكية ، الجوار الكنّس : التي تجري وتعود إلى أمكانها .

17- والليل إذا أدبر وولّى وزالت ظلمته ، أو إذا أقبل ظلامه .

18- والصبح إذا أسفر وظهر نوره ، وفي ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة في نهار جديد ، ومن الجمال في هذا التعبير إضفاء الحياة على النهار الوليد ، فإذا الصبح حي يتنفس .

( وأكاد أجزم أن اللغة العربية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح ، رؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس ، ثم يجيء هذا التعبير فيصوّر هذه الحقيقة التي يشعر بها )i .

19-22- وجواب القسم : إن هذا القرآن ، وهذا الوصف لليوم الآخر لقول رسول كريم ، وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه ، فصار قوله باعتبار تبليغه .

ويذكر صفة هذا الرسول الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه ، فينعته بخمسة أوصاف ، هي :

1- ( كريم ) أي : عزيز على ربه .

2- ( ذي قوة ) في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ .

3- ( عند ذي العرش مكين ) أي : ذي جاه ومنزلة عند ربه .

4- ( مطاع ثم ) أي : هناك في الملأ الأعلى عند الله في ملائكته المقربين ، فهم يصدرون عن أمره ويرجعون إليه .

5- ( أمين ) على وحي ربه ورسالاته ، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به ، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال .

هذه صفة الرسول المبلّغ وهو جبريل عليه السلام ، أما الرسول الذي حمله إليكم وخاطبهم بالقرآن فهو صاحبكم الذي عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا ، وعرفتم عنه الصدق والأمانة ، وليس مجنونا كما تدّعون .

23- ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ، وهو بالأفق الأعلى عند سدرة المنتهى بالأفق المبين ، أي رآه رؤية واضحة عند الأفق الواضح .

24- وليس محمد صلى الله عليه وسلم بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام ، بل هو ثقة أمين لا يأتي به من عند نفسه ، ولا يبدل منه حرفا بحرف ، ولا معنى بمعنى ، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته ، فهو غير متهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه .

25- وليس القرآن قول شيطان ألقاه على لسان محمد حين خالط عقله كما تزعمون ، فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم .

26- ثم يسألهم مستنكرا : فأين تذهبون . أي : فأي سبيل تسلكونها وقد سدت عليكم السبل ، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم ، وبطلت مفترياتكم ، فلم تبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها .

27- ثم بين حقيقة القرآن فقال : إن هو إلا ذكر للعالمين . أي : ليس القرآن إلا عظة للخلق كافة ، يتذكرون بها ما غرز في طباعهم من حب الخير ، وهو ذكر يذكرهم بحقيقة نشأتهم ، وحقيقة وجودهم ، وحقيقة الكون من حولهم ، وهو أعظم عظة للعالمين جميعا .

28 ، 29- وإن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية ، فمن أراد الحق واتجه بقلبه إلى الطريق القويم ، هداه الله إليه ، ويسّر له أمره ، وأمده بالعون والتوفيق ، وبذلك يستقر في قلب كل إنسان أن مشيئته طرف وخيط راجع في أصله إلى مشيئة الله الكبرى وإرادته المطلقة ، فيلجأ كل إنسان إلى ساحة مولاه ، وإلى عناية خالقه ، فعنده سبحانه العون والتوفيق ، والهدى والسداد : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .

***

موضوعات السورة

1- وصف أهوال القيامة .

2- القسم بالنجوم وبالليل وبالصبح على أن القرآن منزل من عند الله بواسطة ملائكته .

3- إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

4- بيان أن القرآن عظة وذكر لمن أراد الهداية .

5- مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب ، وليس لها استقلال بالعمل .

أحوال القيامة

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إذا الشمس كوّرت 1 وإذا النجوم انكدرت 2 وإذا الجبال سيّرت 3 وإذا العشار عطّلت 4 وإذا الوحوش حشرت 5 وإذا البحار سجّرت 6 وإذا النفوس زوّجت 7 وإذا الموءودة سئلت 8 بأي ذنب قتلت 9 وإذا الصّحف نشر 10 وإذا السماء كشطت 11 وإذا الجحيم سعّرت 12 وإذا الجنة أزلفت 13 علمت نفس ما أحضرت 14 }

المفردات :

الشمس كورت : أزيل ضياؤها ، أو لفّت وطويت .

التفسير :

1- إذا الشمس كوّرت .

هذه الآية وما بعدها من علامات اضمحلال هذا الكون ونهايته ، حيث تتغير المعالم ، وتبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ، ويختل نظام الكون ، وقد تكرر لفظ : إذا . في الآيات الأولى من سورة التكوير اثنتي عشرة مرة ، وجواب الشرط قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت .

وتكرير لفظ : إذا . اثنتي مرة من مقاصده التشويق للجواب ، لأن السامع عندما يجد هذا الظرف قد تكرر ، يكون في ترقب وشوق لمعرفة الجواب .

والمعنى :

إذا شاخت الشمس ، وانطفأ نورها ، وأصبحت من النجوم القزمة التي أدّت دورها ، ووجب أن تلفّ وتطوى ، فتكوّر تمهيدا لذلك .