وقوله : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة ، وكثرتهم ، وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، حسبتهم لؤلؤا منثورا . ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .
قال قتاده ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم ، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه .
وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي : وإذا رأيت يا محمد ، { ثَمَّ } أي : هناك{[29609]} ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور ، { رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } أي : مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا .
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها .
وقد قَدّمنا{[29610]} في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي{[29611]} سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه " . فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة ، وأحظى عنده تعالى .
وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عفيف{[29612]} بن سالم ، عن أيوب بن عتبة ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله : " سل واستفهم " . فقال : يا رسول الله ، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به ، إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عَهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة " . فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة - أو : نعَم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله ، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته " . ونزلت هذه السورة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } إلى قوله : { وَمُلْكًا كَبِيرًا } فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال : " نعم " . فاستبكى حتى فاضت نفسه . قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده{[29613]} .
وقوله : إذَا رأيْتَ ثمّ رأيْتَ نَعِيما يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا نظرت ببصرك يا محمد ، ورميت بطرفك فيما أعطيتُ هؤلاء الأبرار في الجنة من الكرامة . وعُني بقوله : ثَمّ الجنة رأيْتَ نَعِيما ، وذلك أن أدناهم منزلة من ينظر في مُلكه فيما قيل في مسيرة ألفي عام ، يُرى أقصاه ، كما يرى أدناه .
وقد اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله لم يذكر مفعول رأيت الأول ، فقال بعض نحويي البصرة : إنما فعل ذلك لأنه يريد رؤية لا تتعدى ، كما تقول : ظننت في الدار ، أخبر بمكان ظنه ، فأخبر بمكان رؤيته . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما فعل ذلك لأن معناه : وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما قال : وصلح إضمار ما كما قيل : لقد تقطع بينكم ، يريد : ما بينكم قال : ويقال : إذا رأيت ثم يريد : إذا نظرت ثم ، أي إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما .
وقوله : مُلْكا كَبِيرا يقول : ورأيت مع النعيم الذي ترى لهم ثَمّ مُلْكا كبيرا . وقيل : إن ذلك الملك الكبير : تسليم الملائكة عليهم ، واستئذانهم عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني من سمع مجاهدا يقول : وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال : تسليم الملائكة .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : مُلْكا كَبِيرا قال : بلغنا أنه تسليم الملائكة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، في قوله : وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال : فسّرها سفيان قال : تستأذن الملائكة عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال استئذان الملائكة عليهم .
الخطاب لغير معين . و { ثَمّ } إشارة إلى المكان ولا يكون إلاّ ظرفاً والمشار إليه هنا ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله : { وجزاهم بما صبروا جَنة } [ الإنسان : 12 ] .
وفعل { رأيتَ } الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلُّقِها بمرئي ، أي إذا وجهت نظرك ، و { رأيتَ } الثاني جواب { إذا } ، أي إذا فتحت عينك ترى نعيماً .
والتقييد ب { إذا } أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى : لا ترى إلاّ نعيماً ، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا .
وفي قوله : { ومُلْكاً كبيراً } تشبيه بليغ ، أي مثل أحوال المُلك الكبير المتنعِّم ربه .
وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لِمدارك العقول .
والكبير مستعار للعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وإذَا رأيْتَ ثمّ رأيْتَ نَعِيما "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا نظرت ببصرك يا محمد، ورميت بطرفك فيما أعطيتُ هؤلاء الأبرار في الجنة من الكرامة. وعُني بقوله: ثَمّ: الجنة، رأيْتَ نَعِيما، وذلك أن أدناهم منزلة من ينظر في مُلكه فيما قيل في مسيرة ألفي عام، يُرى أقصاه، كما يرى أدناه..
وقوله: "مُلْكا كَبِيرا" يقول: ورأيت مع النعيم الذي ترى لهم ثَمّ مُلْكا كبيرا. وقيل: إن ذلك الملك الكبير: تسليم الملائكة عليهم، واستئذانهم عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: هما اللذان، لا نعت لهما، ولا وصف..
وجائز أن يكون ذكر النعيم والملك الكبير على معنى أنه لا ينقطع عنهم، بل إذا رأيتهم أبدا رأيتهم في نعيم وملك كبير.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قيل: {وَمُلْكاً} لا زوال له. قال أبو بكر الورّاق: ملكاً لا يتعقبه هلك، وقال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أراد شيئاً كان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أمورا أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه".