36- إن عدة شهور السنة القمرية اثنا عشر شهراً ، في حكم الله وتقديره ، وفيما بَيَّنه في كتبه منذ بدء العالم . ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر يحرم القتال فيها ، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وهذا التحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دين الله المستقيم ، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير . فلا تظلموا في هذه الأشهر أنفسكم باستحلال القتال أو امتناعكم عنه إذا أغار عليكم الأعداء فيها ، وقاتلوا - أيها المؤمنون - جماعة المشركين دون استثناء أحد منهم ، كما يقاتلونكم معادين لكم جميعاً ، وكونوا على يقين من أن الله ناصر للذين يخافون ، فيلتزمون أوامره ويجتنبون نواهيه .
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، أخبرنا محمد بن سيرين ، عن أبي بَكْرَة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته ، فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة [ حرم ، ثلاثة ]{[13464]} متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . ثم قال : " أي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس يوم النحر ؟ " قلنا ؛ بلى . ثم قال : " أي شهر هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس ذا الحجة ؟ " قلنا : بلى . ثم قال : " أي بلد هذا ؟ " . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليست البلدة ؟ " قلنا : بلى . قال : " فإن دماءكم وأموالكم - قال : وأحسبه قال : وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم ، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه{[13465]} {[13466]} ورواه البخاري في التفسير وغيره ، ومسلم من حديث أيوب ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة ، عن أبيه ، به{[13467]} وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا روح ، حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان " {[13468]} ورواه البَزَّار ، عن محمد بن معمر ، به{[13469]} ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عَوْن وقُرَّة ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، به .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا زيد بن حُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة الربَذي ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : " أيها الناس ، إن الزمان قد استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، أولهن رَجَب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم " {[13470]}
وروى ابن مَرْدُويه من حديث موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمرو ، مثله أو نحوه .
وقال حماد بن سلمة : حدثني علي بن زيد ، عن أبي حُرّة{[13471]} حدثني الرقاشي ، عن عمه - وكانت له صحبة - قال : كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق ، أذود الناس عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " {[13472]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، تقرير منه ، صَلَوَات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كما قال في تحريم مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة " ، وهكذا قال هاهنا : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " أي : الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض .
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث : إن المراد بقوله : " قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء ، يحجون في كثير من السنين ، بل أكثرها ، في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء .
وأغرب منه ما رواه الطبراني ، عن بعض السلف ، في جملة حديث : أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر ، عام حجة الوداع ، والله أعلم .
[ حاشية فصل ]{[13473]} ذكر الشيخ علم الدين السَّخاوي في جزء جمعه سماه " المشهور في أسماء الأيام والشهور " : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه ؛ لأن العرب كانت تتقلب به ، فتحله عاما وتحرمه عاما ، قال : ويجمع على محرمات ، ومحارم ، ومحاريم .
صفر : سمي بذلك لخلو بيوتهم منه ، حين يخرجون للقتال والأسفار ، يقال : " صَفِرَ المكان " : إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال .
شهر ربيع أول : سمي بذلك لارتباعهم فيه . والارتباع الإقامة في عمارة الربع ، ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة ، كرغيف وأرغفة .
جمادى : سمي بذلك لجمود الماء فيه . قال : وكانت الشهور في حسابهم لا تدور . وفي هذا نظر ؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة ، ولا بد من دورانها ، فلعلهم سموه بذلك ، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر :
وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة *** لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها الطُّنُبَا
لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ *** حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه الذَّنَبَا
ويُجمع على جُمَاديات ، كحبارى وحُبَاريات ، وقد يذكر ويؤنث ، فيقال : جمادى الأولى والأول ، وجمادى الآخر والآخرة .
رجب : من الترجيب ، وهو التعظيم ، ويجمع على أرجاب ، ورِجَاب ، ورَجَبات .
شعبان : من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات{[13474]}
ورمضان : من شدة الرمضاء ، وهو الحر ، يقال : " رمضت الفصال " : إذا عطشت ، ويجمع على رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قال : وقول من قال : " إنه اسم من أسماء الله " ؛ خطأ لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إليه .
قلت : قد ورد فيه حديث ؛ ولكنه ضعيف ، وبينته في أول كتاب الصيام .
شوال : من شالت الإبل بأذنابها للطراق ، قال : ويجمع على شَوَاول وشَوَاويل وشَوَّالات .
القعدة : بفتح القاف - قلت : وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال والترحال ، ويجمع على ذوات القعدة .
الحجة : بكسر الحاء - قلت : وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة .
أسماء الأيام : أولها الأحد ، ويجمع على آحاد ، وأُحاد ووحود . ثم يوم الإثنين ، ويجمع على أثانين . الثلاثاء : يمد ، ويُذَكَّر ويؤنث ، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث . ثم الأربعاء بالمد ، ويجمع على أربعاوات وأرابيع . والخميس : يجمع على أخمسة وأخامس ، ثم الجمعة - بضم الميم ، وإسكانها ، وفتحها أيضا - ويجمع على جُمَع وجُمُعات .
السبت : مأخوذ من السَّبْت ، وهو القطع ؛ لانتهاء العدد عنده . وكانت العرب تسمي الأيام أول ، ثم أهون ، ثم جُبَار ، ثم دبار ، ثم مؤنس ، ثم العروبة ، ثم شيار ، قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين - :
أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي*** بأوّل أو بأهون أو جُبَار
أو التالي دُبَار فإن أفُْتهُ*** فمؤنس أو عروبةَ أو شيار
وقوله تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية{[13475]} تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم ، إلا طائفة منهم يقال لهم : " البَسْل " ، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر ، تعمقا وتشديدًا .
وأما قوله : " ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، [ فإنما أضافه إلى مضر ، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ]{[13476]} لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال ، وهو رمضان اليوم ، فبين ، عليه [ الصلاة و ]{[13477]} السلام ، أنه رجب مضر لا رجب ربيعة . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد ؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل شهر الحج شهر ، وهو ذو القعدة ؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر ، وهو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : هذا هو الشرع المستقيم ، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم ، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول .
وقال تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : في هذه الأشهر المحرمة ؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي ، وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال : في الشهور كلها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الآية { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } في كلِّهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما ، وعَظم حُرُماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال قتادة في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . قال : إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذِكْرَه ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فَعَظِّموا ما عظم الله ، فإنما تُعَظم الأمور{[13478]} بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل .
وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : بألا تحرموهن كحرمتهن{[13479]}
وقال محمد بن إسحاق : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك ، زيادة في الكفر { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [ التوبة : 37 ] .
وقوله : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أي : جميعكم{[13480]} { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعهم ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام : هل هو منسوخ أو محكم ؟ على قولين :
أحدهما - وهو الأشهر : أنه منسوخ ؛ لأنه تعالى قال هاهنا : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرًا عاما ، فلو كان محرما ما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام - وهو ذو القعدة - كما ثبت في الصحيحين : أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع فَلُّهم ، فلجئوا إلى الطائف - عَمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها{[13481]} فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .
والقول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام ، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [ الآية ]{[13482]} [ المائدة : 2 ] وقال : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } الآية[ البقرة : 194 ] وقال : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ الآية ] [ التوبة : 50 ]{[13483]} وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة ، لا أشهر التسيير على أحد القولين .
وأما قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله ، وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] وقال تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } الآية[ البقرة : 191 ] ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من{[13484]} تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما . وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة ، والله أعلم . ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك{[13485]} وقد حررنا ذلك في السيرة ، والله أعلم{[13486]}