216- فإذا كان في الإنفاق على اليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله فإن القتال حماية له من أعدائه في الخارج ، ولذلك فرض عليكم - أيها المسلمون - القتال لحماية دينكم والدفاع عن أنفسكم ، وأن نفوسكم بحكم جبلتها تكره القتال كرهاً شديداً ، ولكن ربما كرهتم ما فيه خيركم وأحببتم ما فيه شركم ، والله يعلم ما غاب من مصالحكم عنكم ، وأنتم لا تعلمون فاستجيبوا لما فرض عليكم .
وعلى هذا المنهج ذاته ، يجري الأمر في فريضة الجهاد ، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق :
( كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ؛ وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟ !
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة ( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . ) . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } [ البقرة : 214 ] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام ، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض .
ولفظ { كتب عليكم } من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية . وآل في ( القتال ) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموماً عرفياً أي كتب عليكم قتال عدو الدين .
والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] كما تقدم آنفاً .
هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جَحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] ، { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] ، { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] . فعلى المختار يكونُ قوله : { كتب عليكم القتال } خبراً عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله { وهو كره لكم } الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاءً أُنُفاً لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له .
وقوله : { وهو كره لكم } ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة : { كُتب عليكم القتال } ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوماً للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكَره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة ، وحيث قُرىء بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } [ الأحقاف : 15 ] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي :
بكُره سراتنا يا آل عمرو *** نُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال
على أن قوله تعالى بعد ذلك { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئياً من جزئيات أن تكرهوا شيئاً .
وقد تحمل صاحب « الكشاف » لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز ، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء :
* فإنما هي إقْبَالٌ وإدْبَار *
وقيل : الكُره اسم للشيء المكروه كالخبز . فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذَّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجىءُ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث " لا تَمَنَّوْا لِقَاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا " وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العُقَيلي :
ونَبِكي حينَ نَقتُلكم عليكم *** ونَقتلكم كأنَّا لا نُبالي
ومعلوم أن كراهية الطبع الفعلَ لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة .
ثم إن كانت الآية خبراً عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة { وهو كره } حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلاً عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كَرِهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيراً لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حِبٌّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [ البقرة : 217 ] .
وقوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشيء عن قوله : { كتب عليكم القتال وهو كُره لكم } ، لأنه إذا كان مكروهاً فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك .
وجملة { وعسى } معطوفة على جملة { كتب عليكم القتال } ، وجملة { وهو خير لكم } : حالية من { شيئاً } على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنياً عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيُطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفاً من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئاً وفيه نفعه وقد يحب شيئاً وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح . وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب .
فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً ، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً ، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوباً والضار كلَّه مكروهاً فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال ؟ .
قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خَلْقِه الإنسانَ صالحاً للأمرين وأَراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 213 ] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كَوَّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : { فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ الحديد : 25 ] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلاً عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقيةُ الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتِبُ النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسَب الناسُ وفعلوا قال تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } ( 100 ) .
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأُحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتِبُ الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب :
ولا فضل فيها للشجاعة والندى *** وصبرِ الفتى لولا لقاء شَعُوب
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس .
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة .
والفضائل جعلت متولدة من النقائص ؛ فالشجاعةُ من التهور والجبنِ ، والكرمُ من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلَّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها .
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاماً لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال : « الدنيا مزرعة الآخرة » وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضاً وكلامنا هذا سَنَداً وانقلاباً إلى استدلال .
وجملة { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } تذييل للجميع ، ومفعولا { يعلم } و { تعلمون } محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعاً والمنافر ضاراً .
والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كتب عليكم القتال}: يعني فرض عليكم.
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}: فيجعل الله عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة. {وعسى أن تحبوا شيئا}: يعني القعود عن الجهاد. {وهو شر لكم}: فيجعل الله عاقبته شرا، فلا تصيبون ظفرا ولا غنيمة.
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}: والله يعلم من ذلك ما لا تعلمون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ": فرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين "وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ". .
واختلف أهل العلم في الذين عنوا بفرض القتال؛ فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم... عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ "أواجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال: لا، كتب على أولئك حينئذٍ...
حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ "أواجب الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا.
وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقط فرض ذلك حينئذٍ عن باقي المسلمين كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين. وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: "فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهم وأنْفُسِهِمْ على القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى" فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهمّ السوأى لا الحسنى.
وقال آخرون: هو فرض واجب على المسلمين إلى قيام الساعة... عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجب على الناس فسكت. وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبين لي.
"وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ": وهو ذو كره لكم... كره إليكم حينئذ.
والكُره (بالضم): هو ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه، والكَره -بفتح الكاف-: هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرها... الكُرْه: المشقة، والكَرْه: الإجبار.
"وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ": ولا تكرهوا القتال، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خير لكم، ولا تحبوا ترك الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شّر لكم... إن لكم في القتال الغنيمة والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تستشهدوا، ولا تصيبوا شيئا.
"وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ": والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبت عليكم من جهاد عدوّكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أن قتالكم إياهم، هو خير لكم في عاجلكم ومعادكم وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغبهم في قتال من كفر به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والكراهة المذكورة ههنا والمحبة؛ كراهة الطباع والنفس، لا كراهة الاختيار، ولا يكون في كراهة الطباع خطاب، لأن طبع كل أحد ينفر عن القتال والمجاهدة مع العدة، لا أنهم كرهوا ذلك كراهة الاختيار؛ لأنه لا يحتمل أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرون بالقتال والمجاهدة مع العدو، ثم هم يكرهون ما أمروا به اختيارا منهم، لأن ذلك دأب أهل النار. فثبت أنه على ما ذكرنا من نفور كل طبع عن احتمال الشدائد والمشقة وكراهيته...
وقوله: {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} يحتمل هذا في القتال خاصة، وهو أن يكونوا كرهوا القتال لما فيه من المشقة والشدة، {وهو خير لكم} لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات في الآخرة.
{وعسى أن تحبوا شيئا} يعني [عدم] التعود على الجهاد {وهو شر لكم} لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب في الآخرة.
ويحتمل هذا في كل أمر يحب الرجل في الابتداء، وتكون عاقبته شرا، ويكره أمرا فتكون عاقبته خيرا له؛ هذا لجهلنا بعاقبة الأمور وخواتيمها لنعلم أن ليس إلينا من التدبير شيء، والله أعلم...
وقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي {والله يعلم} ما هو خير لكم في العواقب مما هو شر لكم {وأنتم لا تعلمون}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيَّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها في حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هي في وصف التقريب، فالسعادة في مخالفة النفوس؛ فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة في موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السُنَّة العليا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئاً} الآية، قال قوم {عسى} من الله واجبة، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة {وهو خير لكم} في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً،
{وعسى أن تحبوا} الدعة وترك القتال {وهو شر لكم} في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى {والله يعلم} الآية قوة أمر.
معنى الآية ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطرا إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت،
ومنها وجدان الغنيمة، ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء...
منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقربا وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله.
ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين.
ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله.
ومنها أن من أقدم على القتال طلبا لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقنا بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان. فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}.
[و] الشر انبساط الأشياء الضارة.
أما قوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعا أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء [أكان] مكروها للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال: يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة {إني أعلم ما لا تعلمون}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما ذكر ما مس من تقدمنا من اتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر، فهو جهاد النفس بالمال، انتقل إلى أعلى منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس. {والله يعلم} ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال {وأنتم لا تعلمون} ما يعلمه الله تعالى، لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير،
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد؛ فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب. فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد؛ وأوجب ذلك للعبد أمورا:
منها: أنه لا انفع له من امتثال أمر ربه وإن شق عليه في الابتداء. لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات، ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى، وان هويته نفسه، ومالت إليه. وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب.
ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم. فلعل مضرته وهلاكه فيه. وهولا يعلم. فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره. فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه. وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منه في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، مع اختياره لنفسه. ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه اللطف به. فيصير بين عطفه ولطفه. فعطفه يقيه ما يحذره. ولطفه يهون عليه ما قدره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبروا بما سألوا عنه من إحدى الخصلتين المضمنتين لآية الزلزال كان ذلك موضع السؤال عن الأخرى فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله: {كتب}. وقال الحرالي: لما التف حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197] انتظم به كتب القتال، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة الجزء منه، والكتب ما خُرز بالشيء فصار كالوصلة فيه، كما جعل الصوم لأن في الصوم جهاد النفس كما أن في القتال جهاد العدو، فجرى ما شأنه المدافعة بمعنى الكتب وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة تحق العناية بتفهمهما لينزل كل من القلب في محله ويختص النية في كل واحد على وجهه وقد كان من أول منزلة آي القتال {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] فكان الأول إذناً لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم ورغبتهم إليه في الخلوة به والأنس بمناجاته فالذين كانت صلاتهم حباً كان الخطاب لهم بالقتال إذناً لتلفتهم إليه في بذل أنفسهم لله الذين كان ذلك حباً لهم يطلبون الوفاء به حباً للقاء ربهم بالموت كما أحبوا لقاء ربهم بالصلاة "حين عقلوا "وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم، وطلب لقائه بالشهادة "في الحرب"، فلما اتسع أمر الدين ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد نزل كتبه كما نزل فرض الصلاة استدراكاً فقال: {كتب عليكم القتال} أي أيتها الأمة! وكان في المعنى راجعاً لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلداً إسرائيلياً ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم الذين قالوا:اذهب أنت وربك فقاتلا} [المائدة: 24] انتهى. {وهو كره} وهو ما يخالف غرض النفس وهواها، ولعله لكونه لما كان خيراً عبر باللام في {لكم} وهذا باعتبار الأغلب وهو كما قال الحرالي عند المحبين للقاء الله من أحلى ما تناله أنفسهم حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة،
قال بعض التابعين: لقد أدركنا قوماً كان الموت لهم أشهى من الحياة عندكم اليوم وإنما كان ذلك لما خربوه من دنياهم وعمروه من أخراهم فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة...
ولما كان هذا مكروهاً لما فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهياً لما فيه من الوعد بإحدى الحسنيين من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال: {وعسى أن} وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني {عسى} ما يوضح أن المعنى: وحالكم جدير وخليق لتغطية علم العواقب عنكم بأن {تكرهوا شيئاً} أي كالغزو فتعرضوا عنه لظنكم أنه شر لكم {وهو} أي والحال أنه {خير لكم} لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم. قال الحرالي: فشهد -لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس، كما قال ثعلبة:"كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون "ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة {عسى} لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب...
ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما رجاهم فيه من الخير رهبهم من القعود عنه بما يخشى فيه من الشر. قال الحرالي: فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف... فقال تعالى: {وعسى أن تحبوا شيئاً} أي كالقعود فتقبلوا عليه لظنكم أنه خير لكم {وهو} أي والحال أنه {شر لكم} لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل ذلك مراراً في أمور دنياه، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال عاطفاً على ما تقديره: فالله قد حجب عنكم سر التقدير {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم} أي له علم كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رؤوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير. قال الحرالي: شهادة بحق العلم يرجع إليها عند الأغبياء في تنزل الخطاب...
والآية من الاحتباك ذكر الخير أولاً دال على حذفه ثانياً وذكر الشر ثانياً دال على حذفه مثله أولاً.
ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال: {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق. قال الحرالي: فنفى العلم عنهم لكلمة" لا "أي التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم... حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب،" حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر "فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشيروا عليّ أيها الناس! فقال سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله تعالى عنه: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك! ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً! إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى".
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وقوله {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} معناه أن من الأشياء المكروهة طبعا ما تأتونه وأنتم ترجون نفعه وخيره كشرب الدواء البشع المر، ومن الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضر والأذى في نفسه أو من جهة منازعة الناس له فيه هذا تقرير ما قاله المفسرون ولكن الأستاذ الإمام قال إنه لا يظهر على هذا معنى وجيه لقوله عز وجل {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} لأن هذا مما يعلمه الناس ويتوقعونه لا مما هداهم الكتاب إليه بعد أن كانوا غائبين عنه، والصواب أن {عسى} في مثل هذا المقام تفيد أن ما دخلت عليه من شأنه أن يقع، لا أنه مرجو من المتكلم ومتوقع، وأن الكره محمول على غير ما حملوه عليه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والعرب في قتال مستحر، ونزاع مستمر، وكان الغزو للسلب والنهب، من أعظم أسباب الكسب، وكان الصحابة قد ألفوا القتال واعتادوه ومرنوا عليه فلم يكن عندهم مكروها بالطبع، ولكنهم كانوا يرون أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به ويخشون أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه.
وثم وجه آخر وهو أن كرههم للقتال لم يكن خوفا على أنفسهم أن يبيدوا ولا على الحق الذي حملوه أن يضيع، وإنما هو حب السلام والرحمة بالناس التي أودعها القرآن في نفوسهم، وثبتها الإيمان في قلوبهم، واختيار مصابرة الكفار ومجادلتهم بالدليل والبرهان، دون مجادلتهم بالسيف والسنان، رجاء أن يدخلوا في السلم كافة ويتركوا خطوات الشيطان، وعلى هذا الوجه يظهر من معنى {عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} ما لا يظهر في المعنى الذي قبله ويفيد قوله {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أن قياسكم جميع الكافرين على أنفسكم، وتوقعكم أن يزين لهم من الإيمان ما زين لكم، هو من الأقيسة الباطلة، فإن الاستعداد في الناس يتفاوت تفاوتا عظيما، فمنهم من ساءت خليقته، وأحاطت به خطيئته، حتى لم يبق لروح الحق منفذ إلى عقله، ولا لحب الخير طريق إلى قلبه، فلا تنفع فيه الدعوة، ولا ترجى له الهداية، ومثل هذا الفريق في الأمة كمثل الدم الفاسد في الجسم إذا لم يخرج منه فإنه يفسده. ولم يأمر الله بقتالهم، إلا رحمة بمجموع الأمة أن يفسد بهم، فلا يقاسون على من سلمت فطرتهم وحسنت سريرتهم، وحتى كان وقوعهم في الباطل جهلا منهم بالحق وإصابتهم بعض الشر، لعدم التمييز بينه وبين الخير، وأنتم أيها المؤمنون لا تعلمون كنه استعداد الناس ولا ما يكون من أثره في مستقبلهم، وإنما الله هو الذي يعلم ذلك فامتثلوا أمره.
وأما معناه على الوجه الأول مما أورد الأستاذ الإمام فهو أن سنة الله تعالى قد مضت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأحزابه ما استمسك حزب الله بحقهم فأقاموه ودعوا إليه ودفعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءه ويطعمهم بالتنكيل بحزبه، حتى يتألبوا عليهم ويوقعوا بهم، وأنه قد سبق في علم الله تعالى أن الله لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (البقرة: 249) وقد علم الله كل هذا وأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدونه في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى هذا المنهج ذاته، يجري الأمر في فريضة الجهاد، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم؛ وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة. ولكنها فريضة واجبة الأداء. واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم، وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها. وللحق والخير والصلاح. والإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها. ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها. فالإسلام لا يماري في الفطرة، ولا يصادمها، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل.. ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير.. عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها. نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور..
إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا. ووراء المحبوب شرا. إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده. حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة. وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء. هكذا يواجه الإسلام الفطرة، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف. ولكن مربيا لها على الطاعة، ومفسحا لها في الرجاء. لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها، ويعترف بمشقة ما كتب عليها، ويعذرها ويقدرها؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء.
وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة. ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها. وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء. ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ. فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب. وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق. إنه منهج في التربية عجيب. منهج عميق بسيط. منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة. بالحق وبالصدق. لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع.. فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير. وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه. وفيه الشر كل الشر. وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه. وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه. وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راض قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله. وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان!
إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط. في يسر وفي هوادة وفي رخاء. يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال. فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال. وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير.. إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها. ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها.. إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر..
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة. لا فئة الحامية المقاتلة من قريش. ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام. فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون! وكل إنسان -في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم. ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم. وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه. وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها. ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل. إن الإنسان لا يعلم. والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية. لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله: {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} [البقرة: 214] فقد كلفت به الأمم قبلنا، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.
وقوله: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله: {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم}، لأنه إذا كان مكروهاً فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك. وجملة {وعسى} معطوفة على جملة {كتب عليكم القتال}، وجملة {وهو خير لكم}: حالية من {شيئاً} على الصحيح من مجيء الحال من النكرة، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، وإن كان سبحانه غنياً عن البيان والتعليل، لأنه يأمر فيُطاع، ولكن في بيان الحكمة تخفيفاً من مشقة التكليف، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته، إذ يكره الطبع شيئاً وفيه نفعه وقد يحب شيئاً وفيه هلاكه، وذلك باعتبار العواقب والغايات، فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب. وجملة {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل للجميع، ومفعولا {يعلم} و {تعلمون} محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعاً والمنافر ضاراً. والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبه؟؟ بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{كتب عليكم القتال وهو كره لكم} بين سبحانه الطريق لدفع الضراء، والآلام الداخلية، وهو التعاون، ثم بين بعد ذلك ما يدفع البأساء، وهي الشدائد التي تدهم الجماعة من الخارج، وهو أخذ الأهبة والاستعداد للقتال، فقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره} ثم عسى أن تحبوا الأمن والسلام وتؤثروا المحبة على الخصام، وأعداؤكم يتربصون بكم الدوائر، ويرتعون في الشر رتعا شديدا، فلو تركتموهم وأمرهم لكان ذلك شرا لكم، ولكانوا هم قوما بورا، لا يرشدون ولا يسترشدون، فمن الرحمة ما تحوي في نفسها أقصى الظلم، ومن الرفق ما يشجع أشد العنف، ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: [{و الله يعلم وأنتم لا تعلمون} فالله يعلم مغيب الأمور ومكنون المستقبل وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تصلح به أمور الناس في الدنيا والآخرة وأنتم لا تعلمون، وأنى يكون علم المخلوق كعلم الخالق، وعلم الناقص كعلم الكامل، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال: فالقتال مما تستثقله النفوس عادة، ولكنه ضرورة لا مناص منها في مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة – ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاماً من الآيات التالية لها – تبرز حكمة هذا العلاج؛ حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل.
وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال فيقول: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون 216} إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج الأمر علاجا سوفسطائيا، بمعنى أن يقول: وماذا في القتال؟ لا، إن الخالق يقول: أعلم أن القتال مكروه. وحتى إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك. ولو لم يقل الحق إن القتال كره: لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير يسيرا. إن الله عز وجل يقول للذين آمنوا: اعلموا أنكم مقبلون على مشقات، وعلى متاعب، وعلى أن تتركوا أموالكم، وعلى أن تتركوا لذّتكم وتمتعكم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} إنه سبحانه يقول لنا: أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية، هذه القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص، بل خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها، ولكن يأتي منه الخير. وقد ترون حبا في شيء ويأتي منه الشر. ولذلك ينبهنا الحق إلى أن كثيرا من الأمور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر، فيقول الواحد منا: (كنت أتوقع الخير من هذا الأمر، لكن الشر هو ما جاءني منه). وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير. ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتى يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد. إذن فالله حين يقول: {كُتب} فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره الموهوبة له، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الاختيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله في عقد إيمان، وبمقتضى هذا العقد كتب الله عليه التكاليف. ومن هذه التكاليف القتال، فقال سبحانه: {كُتب عليكم القتال}. وقوله: {عليكم} يعني أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة فجاءت {عليكم} لتناسب الأمر. وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة...
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة الله الذي أجراه؛ لأنه هو الذي يعلم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أولاً: لا بُدَّ للعاملين في سبيل اللّه من استيحاء هذه الآية في غير هذا الجانب من قضايا التشريع أو العمل في سبيل اللّه، مما قد يثير احتجاج البعض واستنكار البعض الآخر، أو يدفعهم إلى التمرّد وعدم الانضباط، وذلك بأن تنطلق التربية الإيمانية على أساس الإحساس بضرورة التحرّك من واقع التجربة وحركة العقيدة، ليستوحيهما الإنسان في كلّ أموره العملية قبل أن يندفع في اتخاذ المواقف السلبية والإيجابية. وبذلك تتأكد الشخصية الإسلامية في مواقعها الصلبة الواعية، فلا تهتز أمام حالات الانفعال، ولا تسقط تحت تأثير ردود الفعل الطارئة السريعة، ولا تندفع في طريق لا تعرف نهاياته وأبعاده؛ بل تقف أمام الأشياء وقفة تأمّل وتفكير من دون فرق بين حالات التحدّي أو حالات الاسترخاء لتدرس كلّ شيء من مواقعه الذاتية بكلّ تجرّد وموضوعية، فلا يمكن للأعداء أن يقودوها إلى معركة لم تحدّد مسارها ومنطلقاتها وأوقاتها، ولا يمكن للأصدقاء أن يدفعوها في طريق لا تعرف كيف تتعامل معه في خطواته البطيئة والسريعة، بل تقف وسطاً بين الخطوط لتختار الخطّ الذي يناسبها من خلال دراسة موضوعية واعية مبنية على العلم والإيمان.
ثانياً: إنَّ الإسلام يواجه الواقع في تشريعاته، فهو يعترف بالواقع الصعب والتجربة المرّة، ولكنَّه يوحي للإنسان بالأسرار العميقة، والأرباح الكبيرة، والنهايات السعيدة التي تكمن في القضية التي يعالجها التشريع، بحيث تحقّق للإنسان رغباته المادية أو المعنوية التي يتجاوز من خلال الانفتاح عليها كلّ الصعوبات والمرارات، فيرحب بها بدلاً من أن يتعقد منها.
ثالثاً: أن تتحرّك حسابات الخير والشر لدى الإنسان على أساس النظرة الواسعة العميقة لما عند اللّه، مما يدركه العقل بالتأمّل أو يكشفه الوحي، لتكون الموازين لدى الإنسان المؤمن منطلقة من موازين السَّماء، فلا تستغرق في خصوصيات موازين الأرض.
رابعاً: الاطمئنان إلى حكمة التشريع الإلهي من خلال الحقيقة الإيمانية، وهي أنَّ اللّه هو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها ونهاياتها، فلا بُدَّ من الثقة بالتشريع بأنه يختزن الخير كلّه للإنسان بعيداً عن المشاعر والانفعالات الذاتية التي يثيرها في النفس سلباً أو إيجاباً؛ فلا يرفض الحكم الشرعي لعدم انسجامه مع رغباته، لأنَّ عنصر الرغبة لا يتصل بالعمق من المصالح والمفاسد، بل يتصل بالجانب السطحي من حياة الإنسان.