بعد ذلك يمضي السياق يطمئن رسول الله [ ص ] والعصبة المسلمة من ورائه ، إلى ولاية الله - سبحانه - له ولها ؛ وهو حسبه وحسبها ؛ ثم يأمره بتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله ؛ فهم أكفاء لعشرة أمثالهم ممن لا يفقهون فقههم ؛ وهم على الأقل أكفاء لمثليهم في أضعف الحالات :
( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين . يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ، بأنهم قوم لا يفقهون . الآن خفف الله عنكم ، وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، والله مع الصابرين ) . .
ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها ، ولا معقب عليها - قوة الله القوي العزيز - وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة - التي تتصدى لكتائب الله - فإذا الفرق شاسع ، والبون بعيد . وإذا هي معركة مضمونة العاقبة ، معروفة النهاية ، مقررة المصير . . وهذا كله يتضمنه قوله تعالى :
استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة ، مُهّد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين ، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله ، من أوّل السورة إلى هنا ، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق والانتظام ، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه ، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين ، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون ، فكانت جملة : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } كالفذلكة للجملة التي قبلها .
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله .
والقول في وقوع « حسب » مسنداً إليه هنا كالقول في قوله آنفاً { فإنّ حسبك الله } [ الأنفال : 62 ] .
وفي عطف المؤمنين « على اسم الجلالة هنا : تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين ، فهو كقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } .
وقيل يُجعل { ومن اتبعك } مفعولاً معه لقوله : { حسبك } بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر ، أو يجعل معطوفاً على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف . وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشريف ، والتفسير الأول أولى وأرشق .
وقد روي عن ابن عبّاس : أنّ قوله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب . فتكون مكّيّة ، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة ، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنسب لها .
وعن النقّاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر ، قبل ابتداء القتال ، فيكون نزولها متقدّما على أوّل السورة ثم جعلت في هذا الموضع من السورة .
والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتّفاقهم على أنّ الآية التي بعدها نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحقّقوا كِفايتهم الرسول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي حسبك الله و} حسب {ومن اتبعك من المؤمنين} بالله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين الله. يقول لهم جلّ ثناؤه: ناهضوا عدوّكم، فإن الله كافيكم أمرهم، ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم، فإن الله مؤيدكم بنصره...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فيه وجهان: أحدهما: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الله، قاله الكلبي ومقاتل. والثاني: حسبك الله أن تتوكل عليه والمؤمنون أن تقاتل بهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) يقول له: يكفيك أن يكون ناصرك على أعدائك الله تعالى، والذين اتبعوك من المؤمنين من المهاجرين والأنصار...
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار، لأن المعنى في الآية الأولى، إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يحرض تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم، أي: كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما صرح بأن الله كافيه، وكانت كفاية الله للعبد أعظم المقاصد، التفتت الأنفس إلى أنه هل يكفيه مطلقاً أو هو فعل مع المؤمنين أيضاً مثل ذلك، فأتبعها بقوله معبراً بوصف النبوة الذي معناه الرفعة والاطلاع من جهة الله على ما لا يعلمه العباد، لأنه في سياق الإخبار ببعض المغيبات والتصرف في الملكوت: {يا أيها النبي} أي العالي القدر الذي نعلمه بعواقب أموره {حسبك} أي كافيك {الله} أي الذي بيده كل شيء {ومن} أي مع من {اتبعك من المؤمنين}
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما أمر الله تعالى رسوله في الآية 61 أن يجنح للسلم إذا جنح لها الأعداء وكان جنوح الأعداء لها مظنة الخداع والمكر كما تقدم قريبا في تفسيرها، وعده عز وجل في الآية 62 بأن يكفيه أمرهم إذا هم أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب، أو غيرها من الإيذاء والشر، وامتن عليه بما يدل على كفايته إياه وهو تأييده له بنصره وبالمؤمنين إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه. ثم إنه تعالى وعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم عليه في حال الحرب كحال السلم وفي كل حال، وجعل هذا الوعد تمهيدا لما بعده من أمره بتحريضهم على القتال، عند الحاجة إليه من بدء العدو بالحرب، أو خيانتهم في الصلح، أو نقضهم للعهد، أو غير ذلك فقال: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)
أي إن الله تعالى هو كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيره، وكاف لمن أيدك بهم من المؤمنين فالحسب في تلك الآية كفاية خاصة به صلى الله عليه وسلم في حال خاصة، وفي هذه كفاية عامة له ولمن اتبعه من المؤمنين في كل حال من قتال أو صلح يفي به العدو أو يخون، وفي غير ذلك من الشؤون. ويحتمل لأن يكون العطف على معنى: وحسبك من اتبعك من المؤمنين أي فإنه ينصرك بهم. ولكن مقتضى كمال التوحيد هو الأول وهو كفاية الله تعالى له ولهم كما قال تعالى في المؤمنين في سياق غزوة أحد أو غزوة حمراء الأسد {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فالحسبلة مقتضى التوكل وإنما يكون التوكل على الله وحده كما قال لنبيه {قل حسبي الله عليه فليتوكل المتوكلون} [الزمر:38] أي عليه وحده بدلالة تقديم الظرف ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة. وقال في المنافقين {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} [التوبة: 59] أي لكان خيرا لهم، وعلمهم الله تعالى أن يسندوا الإعطاء من الصدقات إلى الله لأنه المعطي الذي فرض الصدقات وأوجبها، وإلى رسوله لأنه هو الذي يقسمها وأن يسندوا كفاية الإحساب إلى الله وحده وتكون رغبتهم إلى الله وحده، ولم يأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله ورسوله، إذ لا يكفي العباد إلا ربهم وخالقهم كما قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} [الزمر:36] ولا سيما الكفاية الكاملة التي يعبر عنها بحسبك أي التي يقول فيها المكفي حسبي حسبي، وهي المرادة هنا كما تقدم. وإذا كان من دأب آحاد المؤمنين وهجيراهم « حسبنا الله ونعم الوكيل» فأنبياء الله ورسله أولى بهذا لأنهم أكمل توحيدا وتوكلا من غيرهم. وناهيك بخاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم ثم ناهيك بوعد الله تعالى إياه بهذه الكفاية، وهذا المعنى هو الذي اقتصر عليه ابن كثير راويا عن الشعبي أنه قال في الآية: حسبك الله وحسب من شهد معك (قال) وروي عن عطاء الخراساني مثله وعبد الرحمان بن زيد اه.
أقول: وهذا المعنى قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وأبطل مقابله. فاحتمال عطف من اتبعه من المؤمنين على اسم الجلالة باطل من حيث المعنى كما قال، وإن عده النحاة أظهر في الإعراب على قواعد البصريين التي يتعصب لها جمهورهم، وما من طائفة من علماء علم ولا فن لهم مذهب يخالفه آخرون إلا ويوجد فيهم من يتعصب لكل ما يقوله أهل مذهبهم ولأئمة فنهم... هذا وإن المراد بالمؤمنين هنا جماعتهم من المهاجرين والأنصار كما تقدم في الآيتين السابقتين لهذه الآية ولا سيما الذين شهدوا بدرا منهم في الأنصار وحدهم كما قيل هنا وهناك فإن جل هذه السورة نزل في شأن تلك الغزوة الكبرى كما تقدم أيضا، وعن الكلبي أن هذه الآية نزلت قبلها. وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت عند ما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصار المسلمون بإسلامه أربعين نسمة منهم ست نسوة. رواه البزار من طريق عكرمة بسند ضعيف وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه بسند صححه السيوطي وفيه نظر ورواه عنه الطبراني أيضا وأخرج أبو الشيخ مثله عن سعيد بن المسيب. ومقتضى هذا أن الآية مكية والسورة مدنية بالإجماع، ولا يظهر معناها الذي قررناه إلا في وقت نزول سورتها، ولا المعنى الآخر المرجوح الذي أراده واضع الرواية فيما يظهر فإن أولئك الأربعين لم تتحقق بهم كفاية الإحساب بالنصر على الكفار ولا بأمن شرهم واضطهادهم للمؤمنين بل اضطرهم المشركون إلى الهجرة العامة بعد هجرة الحبشة الخاصة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء. فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلابد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق والانتظام، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون، فكانت جملة: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} كالفذلكة للجملة التي قبلها. وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله. وفي عطف المؤمنين « على اسم الجلالة هنا: تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين، فهو كقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}.