4- وما أرسلنا رسولا قبلك - يا أيها النبي - إلا متكلماً بلغة قومه الذين بعثناه فيهم ليفهمهم ما أتى به ، فيفقهوه ويدركوه بسهولة ، وليس عليه هدايتهم ، فالله يضل من يشاء لعدم استعداده لطلب الحق ، ويهدى من يشاء لحسن استعداده ، وهو القوى الذي لا يغلب على مشيئته ، والذي يضع الأمور في مواضعها ، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة .
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . .
وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة . فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم ، ليبين لهم وليفهموا عنه ، فتتم الغاية من الرسالة .
وقد أرسل النبي [ ص ] بلسان قومه - وإن كان رسولا إلى الناس كافة - لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى كافة البشر . وعمره [ ص ] محدود . وقد أمر ليدعو قومه أولا حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام . ومن ثم تكون مهدا يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض . والذي حدث بالفعل - وهو من تقدير الله العليم الخبير - أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام إلى آخر حدود الجزيرة ، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة ، الذي توفي الرسول [ ص ] ولم يتحرك بعد . . وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو إلى الإسلام ، تصديقا لرسالته إلى الناس كافة . ولكن الذي قدره الله له ، والذي يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود ، أن يبلغ الرسول [ ص ] قومه بلسانهم ، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى الأصقاع . . وقد كان . . فلا تعارض بين رسالته للناس كافة ، ورسالته بلسان قومه ، في تقدير الله ، وفي واقع الحياة .
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . . ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء )
إذ تنتهي مهمة الرسول - كل رسول - عند البيان . أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال ، فلا قدرة له عليه ، وليس خاضعا لرغبته ، إنما هو من شأن الله . وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة . فمن سار على درب الضلال ضل ، ومن سار على درب الهدى وصل . . هذا وذلك يتبع مشيئة الله ، التي شرعت سنته في الحياة .
القادر على تصريف الناس والحياة ، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافا بلا توجيه ولا تدبير .
هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام ، أي لست يا محمد ببدع من الرسل ، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا ، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة ، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالاً في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي ، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع{[7001]} قوله : { فيضل } أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين ، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل ، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه ، وله في ذلك العزة التي لا تعارض ، والحكمة التي لا تعلل ، لا رب غيره .
قال القاضي أبو محمد : فإن اعترض أعجمي بأن يقول : من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه ؟ قيل له : أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك ، وفي ذلك كفايتك .
فإن قال : ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة ؟ قيل له : الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر ، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة ، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء .
و «اللسان » في هذه الآية يراد به اللغة{[7002]} .
وقرأ أبو السمال «بلسْن » بسكون السين دون ألف - كريش ورياش - ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن - بسكون السين{[7003]} .
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً لقلب اعتقاد المخاطبين ، فيتعين أن يكون ردّاً على فريق من المشركين قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم . وقد ذكر في « الكشاف » في سورة فصلت عند قوله تعالى : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } [ سورة فصلت : 44 ] فقال : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ، وهو مروي في « تفسير الطبري » هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك .
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل ، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تُفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة . وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة ، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح . وقد زعم السراج البلقيني : أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال :
ومن عجيب ما ترى العينان *** أن سُؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقينــي *** ولـــم أره لغيره بعيني
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من « صحيح البخاري » ، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة . فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله ، فالقصر هنا لرد كلامهم ، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين .
فموقع هذه الآية عقب آية { كتاب أنزلناه إليك } بيّن المناسبة .
وتقدير النظم : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور .
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّاً لمقالة بعض المشركين يكُن تنزيلاً للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن ، ولقولهم : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة . والمعنى : ما أرسلناك إلاّ لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه ، وكان قوله : { إلا بلسان قومه } إدْماجاً في الاستثناء المتسلط عليه القصرُ ؛ أو يكون متعلقاً بفعل { ليبين } مقدماً عليه . والتقدير : ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم ، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم ، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم ، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله : { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } .
واللسان : اللغة وما به التخاطب . أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به ، مثل : سَال الوادي .
والباء للملابسة ، فلغة قومه ملابسة لِكلامه والكتاببِ المنزل إليه لإرشادهم .
والقوم : الأمة والجماعة ، فقوم كلُ أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة ، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم ، إذ كان الرسُل يبعثون إلى أقوامهم ، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب ، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة .
وإنما كان المخاطب أولاً هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها ، فاختار الله أن يكون رسوله عليه الصلاة والسلام من أمة هي أفصح الأمم لساناً ، وأسرعهم أفهاماً ، وألمعهم ذكاءً ، وأحسنهم استعداداً لقبول الهدى والإرشاد ، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عددٌ من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلامُ بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفاً أو أكثر . وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون .
واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب ، لأنها أصلح اللغات جمعَ معان ، وإيجاز عبارة ، وسهولة جري على الألسن ، وسرعة حفظ ، وجمال وقع في الأسماع ، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادىء ذي بدء ، وعهد إليها نشره بين الأمم .
وفي التعليل بقوله : { ليبين لهم } إيماء إلى هذا المعنى ، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بأن يأتي الكتاب بها ، قال تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [ سورة الشعراء : 195 ] . فهذا كله من مطاوي هذه الآية .
ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتُصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبيّن لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم .
وتفريع قوله : { فيضل الله من يشاء } الخ على مجموع جملة { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } ، ولذلك جاء فعل { يضلّ } مرفوعاً غير منصوب إذ ليس عطفاً على فعل { ليبين } لأن الإضلال لا يكون معلولاً للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين . والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين . وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم .
والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد .
وجملة { وهو العزيز الحكيم } تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خُلق له ، والحكيم يضع الأشياء مواضعها ، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد . ومَوْقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم ، فالتبيين من مقتضَى أمر التشريع والإضلالُ من مقتضَى أمر التكوين .