ويمضي موسى في البيان لقومه . بعد ما ذكرهم بأيامه . ووجههم إلى الغاية من العذاب والنجاة . وهي الصبر للعذاب والشكر للنجاة . . يمضي ليبين لهم ما رتبه الله جزاء على الشكر والكفران :
( وإذ تأذن ربكم : لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) . .
ونقف نحن أمام هذه الحقيقة الكبيرة : حقيقة زيادة النعمة بالشكر ، والعذاب الشديد على الكفر
نقف نحن أمام هذه الحقيقة تطمئن إليها قلوبنا أول وهلة لأنها وعد من الله صادق . فلا بد أن يتحقق على أية حال . . فإذا أردنا أن نرى مصداقها في الحياة ، ونبحث عن أسبابه المدركة لنا ، فإننا لا نبعد كثيرا في تلمس الأسباب .
إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية . فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة .
هذه واحدة . . والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته ، تراقبه في التصرف بهذه النعمة . بلا بطر ، وبلا استعلاء على الخلق ، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد .
وهذه وتلك مما يزكي النفس ، ويدفعها للعمل الصالح ، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ؛ ويرضي الناس عنها وعن صاحبها ، فيكونون له عونا ؛ ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان . إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة . وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن ، أدرك الأسباب أو لم يدركها ، فهو حق واقع لأنه وعد الله .
والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها . أو بإنكار أن الله واهبها ، ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي ! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله ! وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد . . وكله كفر بنعمة الله . .
والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة . عينا بذهابها . أو سحق آثارها في الشعور . فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين ! وقد يكون عذابا مؤجلا إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء الله . ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء .
و { تأذن } بمعنى آذن . أي أعلم ، وهو مثل : أكرم وتكرم ، وأوعد وتوعد ، وهذا الإعلام منه مقترن بإنفاذ وقضاء قد سبقه ، وما في تفعل هذه من المحاولة والشروع إذا أسندت إلى البشر منفي في جهة الله تعالى ، وأما قول العرب : تعلم بمعنى أعلم ، فمرفوض . الماضي على ما ذكر يعقوب . كقول الشاعر :
تعلم أبيت اللعن . . . . . . {[7011]} ونحوه .
وقال بعض العلماء : الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة ، والدنيا أهون من ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وصحيح جائز أن يكون ذلك ، وأن يزيد الله أيضاً المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضاً منهما جميعاً ، وفي هذه الآية ترجية وتخويف ، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر ، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد ، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا : معنى الآية : { لئن شكرتم لأزيدنكم } من طاعتي وضعفه الطبري ، وليس كما قال : بل هو قوي حسن ، فتأمله .
قال القاضي أبو محمد : وقوله : { لئن شكرتم } هو جواب قسم يتضمنه الكلام .
عطف على { إذ أنجاكم من آل فرعون } فهو من كلام موسى عليه السلام والتقدير : واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربكم لئن شكرتم الخ ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمةٌ وفضل من الله ، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاءً لولا سعة فضل الله . وأما قوله : { ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } فجاءت به المقابلة .
ويجوز أن يعطف { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } على { نعمة الله عليكم } . فيكون التقدير : واذكروا إذ تأذن ربكم ، على أن { إذ } منصوبة على المفعولية وليست ظرفاً وذلك من استعمالاتها . وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف ( 167 ) : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم } وقوله : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } [ سورة الأعراف : 86 ] .
ومعنى { تأذن ربكم } تكلّم كلاماً عَلَناً ، أي كلم موسى عليه السلام بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل . ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات ( 9 20 ) من الإصحاح ( 19 ) من « سفر الخروج » ، والفقرات ( 1 18 ، 22 ) من الإصحاح ( 20 ) منه ، والفقرات ( من 20 إلى 30 ) من الإصحاح ( 23 ) منه .
والتأذن مبالغة في الأذان يقال : أذن وتأذّن كما يقال : توعّد وأوعد ، وتفضّل وأفضل . ففي صيغة تفعّل زيادة معنى على صيغة أفْعَلَ .
وجملة { لئن شكرتم } موطئة للقسم والقسم مستعلم في التأكيد . والشكر مؤذن بالنعمة . فالمراد : شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها ، ولذلك حذف مفعول { شكرتم } ومفعول { لأزيدنكم } ليقدر عاماً في الفعلين .
والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان . وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك ، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة .
واستغنى ب { إن عذابي لشديد } عن { لأعذبنه عذاباً شديداً } [ النمل : 21 ] لكونه أعم وأوجز ، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس . والمعنى : إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.