10- قالت الرسل لأقوامهم - منكرين عليهم شكهم في وجود الله ووحدانيته ، متعجبين من ذلك - أفي وجود الله وألوهيته - وحده - شك ، وهو خالق السماوات والأرض على غير مثال يحتذيه ، وهو يدعوكم ليغفر لكم بعض ذنوبكم التي وقعت منكم قبل الإيمان ، ويؤخركم إلى انتهاء آجالكم ؟ ! قالت الأقوام لرسلهم تعنتاً : ما أنتم إلا بشر مثلنا ، لا فضل لكم علينا يؤهلكم للرسالة . . تريدون أن تمنعونا بما تدعوننا إليه عمَّا كان عليه آباؤنا من العبادة ، فأتونا بحُجة واضحة مما نقترحه عليكم .
ولما كان الذي يدعوهم إليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وربوبيته للبشر بلا شريك من عباده . . فإن الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة ، وتدل عليها آيات الله المبثوثة في ظاهر الكون المتجلية في صفحاته ، يبدو مستنكرا قبيحا ، وقد استنكر الرسل هذا الشك . والسماوات والأرض شاهدان .
( قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ؟ ) . .
أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما إبداعا وأنشأهما إنشاء ؟ قالت رسلهم هذا القول ، لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان ، فمجرد الإشارة إليهما يكفي ، ويرد الشارد إلى الرشد سريعا ، ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ؛ ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان ، وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب :
( أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) .
والدعوة أصلا دعوة إلى الإيمان ، المؤدي إلى المغفرة . ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة ، لتتجلى نعمة الله ومنته . وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة !
( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) . . ( ويؤخركم إلى أجل مسمى ) . .
فهو - سبحانه - مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة ، ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب . إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى . إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب ، ترجعون فيه إلى نفوسكم ، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم . وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم . . فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان ؟ !
هنا يرجع القوم في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول :
( قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) . .
وبدلا من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته ، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار ، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ؛ ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم . ولا يسألون أنفسهم : لماذا يرغب الرسل في تحويلهم ؟ ! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم : ما قيمته ؟ ما حقيقته ؟ ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير ؟ ! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة ، إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق :
قوله : { أفي الله } مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك ؟ وقال أبو علي الفارسي : تقديره : أفي وحدانية الله شك ؟ .
قال القاضي أبو محمد : وزعم بعض الناس : أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظاً للاعتزال وزوالاً عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها ، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال .
و «الفاطر » المخترع المبتدي ، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ ، أي أيشك فيمن هذه صفته ؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك .
وقوله : { من ذنوبكم } ذهب بعض النحاة{[7021]} إلى أنها زائدة ، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض .
قال القاضي أبو محمد : وهو معنى صحيح ، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي ، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتاً ليبقى معه في مشيئة الله تعالى ، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض ، فصح معنى { من }{[7022]} .
وقوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف ، في قوله : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } {[7023]}[ الأعراف : 34 ] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض . ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول : هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه ؟ .
فالأول هو قول المعتزلة ، والثاني قول أهل السنة .
فتقول المعتزلة : لو لم يقتله لعاش ، وهذا سبب القود .
وقالت فرقة من أهل السنة ، لو لم يقتله لمات حتف أنفه .
قال أبو المعالي : وهذا كله تخبط ، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة ، فمحال أن يقع غير ذلك ، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله ، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل ، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه .
وقول الكفرة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } فيه استبعاد بعثة البشر ، وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة{[7024]} أو من يقول من الفلاسفة : إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية ، و { سلطان مبين } ، ولو كانت بعثتهم عندهم محالاً لما طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز ، أي بعثتكم محال وإلا { فأتونا بسلطان مبين } ، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً ، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة .
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } .
استفهام إنكاري . ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله ، فقدم متعلق الشك للاهتمام به ، ولو قال : أشك في الله ، لم يكن له هذا الوقع ، مثل قول القطامي :
أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعدَ عطائك المائةَ الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول : أبعد رد الموت عني كفرٌ .
وعلق اسم الجلالة بالشك ، والاسم العَلَم يدلّ على الذات . والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية ، أي صفة الوحدانية .
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالُّ على أن لهما خالقاً حكيماً لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعللٍ مختار ، وذلك معلوم بأدنى تأمل ، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته .
وجملة { يدعوكم } حال من اسم الجلالة ، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد .
والدعاء : حقيقته النداء . فأطلق على الأمر والإرشاد مجازاً لأن الآمر ينادي المأمور .
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالباً وهو { إلى } ، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } [ سورة غافر : 41 ] .
وقد يعدّى بلام التعليل داخلةً على ما جُعل سبباً للدعوة فإن العلة تدل على المعلول ، كقوله تعالى : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } [ سورة نوح : 7 ] ، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر ، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ، وهو في هذه الآية كذلك ، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم .
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلاً للشيء الذي يُدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى ، كقول أعرابي من بني أسد :
دعَوْتُ لِمَا نَابني مِسْورَا *** فلبّى فلبيْ يديْ مسور
{ قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } .
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية ، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يُعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلاً عنه ، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج ، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه ، وحسبانهم بذلك التعجيز .
فجملة { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } في موضع الحال ، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } من جحد كونهم رسلاً من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفاً لدينهم القديم ، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة { فأتونا بسلطان مبين } لأن مجرّد كونهم بشراً لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم ، وهو مضمون ما أرسلوا به .
وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلَّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل ، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا : تريدون أن تصدّونا عن ديننا .
والسلطان : الحجة . وقد تقدّم في قوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } في سورة الأعراف ( 71 ) .