من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله ، ولا تتفق مع سنته ، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء . . أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم . . علام يعتمدون في هذه الأمنية ؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون ؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات ؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال ، وأكاذيب المحتالين العلماء ! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة ، حين يطول بهم الأمد ، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم ، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله ، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله :
( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . .
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة : ( أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ ) . . فأين هو هذا العهد ؟ ( أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) . . وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير . ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ !
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ( 80 )
وقوله تعالى : { وقالوا لن تمسَّنا النارُ } الآية ، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود من أهل النار ؟ فقالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال لهم : كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم ، فنزلت هذه الآية( {[859]} ) ، ويقال إن السبب أن اليهود قالت : إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوماً عدد عبادتهم العجل ، قاله ابن عباس( {[860]} ) وقتادة ، وعطاء . وقالت طائفة : قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم ، وقال ابن عباس( {[861]} ) أيضاً ومجاهد وابن جريج : إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوماً .
و { اتخذتمْ } أصله «ايتخذتم » ، وزنه افتعلتم من الأخذ ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم » فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفاً في ياتخذوا وواواً في «موتخذ » فبدلت بحرف جلد( {[862]} ) ثابت وهو التاء وأدغمت ، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل ، ومذهب أبي علي أن { اتخذتم } من «تخذ » لا من «أخذ » وقد تقدم ذكر ذلك( {[863]} ) .
وقال أهل التفسير : العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد ، وقال ابن عباس وغيره : معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون( {[864]} ) بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار ؟ ، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون ؟ وعلى التأويل الثاني يجيء : هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون ؟ ، وقوله { فلن يخلف الله عهده } اعتراض أثناء الكلام( {[865]} ) .
قيل : الواو لعطف الجملة على جملة : { وقد كان فريق منهم } [ البقرة : 75 ] فتكون حالاً مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون : { لن تمسنا النار } . والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله { يكتبون } [ البقرة : 79 ] إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار . ووجه المناسبة أن قولهم { لن تمسنا النار } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياماً عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك ، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم . ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام .
وقوله : { وقالوا } أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله { قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب : *علام تقول الرمح يثقل عاتقي*
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] .
وعبر عن نفيهم بحرف { لن } الدال على تأييد النفي تأكيداً لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة ( لن ) على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله : { إلا أياماً معدودة } على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية .
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا .
وتأنيث { معدودة } وهو صفة { أياماً } مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] .
وقوله : { قل أتخذتم عند الله عهداً } جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده { بلى } فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو { أم تقولون } لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له .
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك .
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و{ عند } لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يداً عند فلان .
وقوله : { فلن يخلف الله عهده } الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] . ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسبباً عما قبلها ولا مترتباً عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن ( لن ) للاستقبال .
و ( أم ) في قوله : { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في « الإيضاح » وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم ، فما قاله صاحب « المفتاح » من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير .