الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (80)

قوله تعالى : { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } . . هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، فأيَّاماً منصوبٌ على الظرفِ بالفعلِ قبلَه ، والتقديرُ : لَنْ تَمَسَّنا النارُ أبداً إلا أياماً قلائلَ يَحْصُرُها العَدُّ ، لأن العَدَّ يَحْصُر القليلَ ، وأصلُ أَيَّام : أَيْوام لأنه جمعُ يوم ، نحو : قَوْم وأَقْوامٍ ، فاجتمع الياءُ والواوُ وَسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَوَجَبَ قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياءِ في الياءِ ، مثل هيّن وميّت .

قوله : { أَتَّخَذْتُمْ } الهمزةُ للاستفهامِ ، ومعناهُ الإِنكارُ والتقريعُ ، وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الوصل الداخلةِ على " اتَّخَذْتُم " كقوله : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ }

[ سبأ : 8 ] ، { أَصْطَفَى } [ الصافات : 153 ] وبابه . وقد تقدَّم القولُ في تصريفِ { اتَّخَذْتُمُ } [ البقرة : 67 ] وخلافُُ أبي علي فيها . ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد . قال أبو البقاء : " وهو بمعنى جَعَلْتُم المتعدية لواحد " ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها بمعنى " جَعَل " في تعدِّيها لواحد ، بل المعنى : هل أَخَذْتُم مِنَ اللهَ عَهْداً ، ويُحتملُ أَنْ تتعدَّى لاثنين ، والأولُ " عهد " ، والثاني " عند الله " مقدَّماً عليه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ " عند الله " باتَّخَذْتُمْ ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ . ويجوزُ نَقْلُ حركةِ همزةِ الاستفهامِ إلى لام " قُلْ " قبلَها فَتُفْتَحُ وتُحْذَفُ الهمزةُ وهي لغةٌ مطَّرِدَةٌ قرأَ بها نافع في روايةِ ورش عنه .

قوله : { فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ } هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله : { أَتَّخَذْتُمْ } وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ ، أو بطريقِ إضمار الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ ؟ قولان ، تقدَّم تحقيقُهما . واختار الزمخشري القولَ الثاني ، فإنه قال : { فَلَنْ يُخْلِفَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه : إن اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه " . وقال ابنُ عطية : " فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه : اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ . كأنه يَعْني بذلك أنَّ قولَه : " أم تَقُولون " مُعادِلٌ لقولِه : " أَتَّخَذتم " فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ بين المتعادِلَيْنِ معترضةً ، والتقديرُ : أيُّ هذين واقعٌ ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم قولِكم بغيرِ علمٍ ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإِعراب ، وعلى الأول محلُّها الجَزْمُ .

قوله : { أَمْ تَقُولُونَ } أمْ " هذه يجوزُ فيها وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين ، أي : أيُّ هذين واقعٌ ، وأَخْرَجَهَ مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه ، وإنْ [ كان ] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما ، وهو قولُهم على اللهِ ما لا يعلمون للتقرير ، ونظيرُه : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

[ سبأ : 24 ] وقد عُلِمَ أيُّهما على هدىً وأيُّهما في ضلالِ ، وقد عَرَفْتَ شروطَ المتصلةِ أولَ السورة . ويجوزُ أن تكونَ منقطعةً ، فتكونَ غيرَ عاطفةٍ ، وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ/ والتقديرُ : بل أتقولون ، ويكونُ الاستفهامُ للإِنكارِ لأنه قد وقع القولُ منهم بذلك ، هذا هو المشهورُ في أمِ المنقطعةِ . وزعم جماعةٌ أنها تُقَدَّر ب " بل " وجدَها دونَ همزةِ استفهامٍ ، فَيُعْطَفُ ما بعدَها على ما قبلها في الإِعرابِ ، واستدَلَّ عليه بقولِهم : إنَّ لنا إبلاً أَمْ شاءً ، بنصْبِ " شاء " وقول الآخر :

وَليْتَ سُلَيْمى في المَنَامِ ضَجيعتي *** هنالِكَ أَمْ في جنةٍ أَمْ جَهَنَّمِ

تقديره : بل في جهنَّمَ ، ولو كانَتْ همزةُ الاستفهامِ مقدَّرةً بعدَها لَوَجَبَ الرفعُ في " شاء " و " جهنم " على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : هي في هذين الموضعينِ متصلةٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أنَّ شرطَها أَنْ تتقدَّمَها الهمزةُ لفظاً أوْ تقديراً ، ولا يَصْلُحُ ذلك هنا .

قوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } " ما " منصوبةٌ بتقولون ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً .