نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (80)

ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير : فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا ، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى : { وقالوا لن تمسّنا } من المس{[3272]} وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره { النار } أي المعدة في الآخرة { إلا أياماً } ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم : { معدودة } {[3273]}أي منقضية ، لأن كل معدود منقض . قال الحرالي : والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض ، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران{[3274]} .

ولما ادعوا ذلك ادعوا أن المسلمين يخلفونهم بعد ذلك فيها ، روى البخاري في الجزية{[3275]} والمغازي والطب والدارمي في أول المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا لي من كان ههنا من يهود ، فجمعوا له فقال : إن سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه ؟ فقالوا : نعم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : من أبوكم ؟ قالوا فلان ، فقال : كذبتم ، بل أبوكم فلان ، قالوا : صدقت وبررت ، قال : فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ قالوا{[3276]} : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ، فقال لهم : من أهل النار ؟ قالوا{[3277]} : نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اخسؤوا فيها ! والله لا نخلفكم فيها أبداً ، ثم قال : هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، قال : هل جعلتم في هذه الشاة سماً ؟ قالوا{[3278]} : نعم ، قال : ما حملكم على ذلك ؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك ، وإن كنت نبياً لم يضرك " ولما ادعوا ذلك{[3279]} كان كأنه قيل : فيما ذا نرد عليهم ؟ فقال { قل } منكراً لقولهم{[3280]} { اتخذتم } في ذلك { عند الله }{[3281]} أي الذي له الأمر كله{[3282]} { عهداً فلن } أي فيتسبب عن ذلك أنه يوفي بعهده ، لأنه { يخلف الله }{[3283]} {[3284]}الذي له صفات الكمال{[3285]} { عهده أم }{[3286]} لم يكن ذلك فأنتم { تقولون على الله } {[3287]}المحيط بكل شيء قدرة وعلماً{[3288]} { ما لا تعلمون } ومعنى الإنكار في الاستفهام أنه ليس واحد من الأمرين واقعاً{[3289]} ، لا اتخذتم عهداً ولا قلتم ذلك جهلاً ، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه{[3290]} ،


[3272]:المس الإصابة والمس الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللمس مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيء المس مع الإحساس؛ وحقيقة المس واللمس باليد، ونقل من الإحساس إلى المعاني مثل "إني مسني الشيطان" "كالذي يتخبطه الشيطان من المس" ومنه سمى الجنون مسا، وقيل المس واللمس والجس متقارب إلا أن الجس عام في المحسوسات والمس فيما يخفى ويدق كنبض العروق، والمس واللمس بظاهر البشرة والمس كناية عن النكاح وعن الجنون – قاله أبو حيان. وذكر في نزول الآية أن سبب نزول هذه الآية أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى ان ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك – روى ذلك عن ابن عباس، وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليهود من أهل النار، قالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال: كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفنكم فنزلت هذه الآية – ولمزيد التفصيل فليراجع إلى البحر المحيط 1 / 278.
[3273]:قال البيضاوي: محصورة قليلة، روى أن بعضهم قالوا: نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما، وبعضهم قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف وغنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
[3274]:زاد في م ومد: فإنه لبيان اجترائهم على العظائم.
[3275]:في م: الخبرية، وهي محرفة.
[3276]:في ظ: فقالوا.
[3277]:في م ومد: فقالوا.
[3278]:في م ومد: فقالوا.
[3279]:ليس في م.
[3280]:زيد في م ومد: ذلك.
[3281]:ليست في ظ.
[3282]:ليست في ظ.
[3283]:زيد في م: أي.
[3284]:ليست في ظ.
[3285]:ليست في ظ.
[3286]:قال علي المهائمي: "أم" لم تتخذوه ولكن "تقولون مالا تعلمون" صدقه من الخبز المروي عن يعقوب عليه السلام أن الله تعالى عهد إليه أن لا يعذب بنيه إلا تحلة القسم، فإن صح عنه فالمراد أولاد صلبه لا ذريته النازلة المشتملة على مؤمن وكافر، قال عز وجل ليس كما يقولون.
[3287]:ليست في ظ .
[3288]:.ليست في ظ
[3289]:زيد في م ومد: كما في قوله تعالى "افترى على الله كذبا أم به جنة" وأم معادلة هنا للهمزة وإن اختلف الفعلان، كما ذكر دليله في آخر سورة ص
[3290]:زيد في م ومد: ولذلك ذكرهم بتكرير الاسم الأعظم مظهرا غير مضموما له من الجلال والجمال الذي عاينوا كثيرا منه استعطافا لهم إلى الخير وتخويفا