البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (80)

المسّ : الإصابة ، والمسّ : الجمع بين الشيئين على نهاية القرب ، واللمس : مثله لكن مع الإحساس ، وقد يجيء المسّ مع الإحساس .

وحقيقة المس واللمس باليد .

ونقل من الإحساس إلى المعاني مثل : { أني مسني الشيطان } { يتخبطه الشيطان من المسّ } ومنه سمي الجنون مساً ، وقيل : المسّ واللمس والجسّ متقارب ، إلا أن الجسّ عام في المحسوسات ، والمسّ فيما يخفى ويدق ، كنبض العروق ، والمسّ واللمس بظاهر البشرة ، والمسّ كناية عن النكاح وعن الجنون .

المعدود : اسم مفعول من عدّ ، بمعنى حسب ، والعدد هو الحساب .

الإخلاف : عدم الإيفاء بالشيء الموعود .

{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } سبب نزول هذه الآية : أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، قالوا : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم ، فتذهب جهنم وتهلك .

" روي ذلك عن ابن عباس .

وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اليهود من أهل النار » قالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال : «كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم » " فنزلت هذه الآية .

وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام ، عدد أيام الدنيا ، سبعة آلاف لكل ألف يوم ، ثم ينقطع العذاب .

وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً ، عدد عبادتهم العجل ، وقيل : أربعين يوماً تحلة القسم .

وقيل : أربعين ليلة ، ثم ينادي : اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل ، فنزلت هذه الآية ، والضمير في : وقالوا ، عائد على الذين يكتبون الكتاب .

جمعوا ، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه ، وأخذهم به المال الحرام ، وكذبهم على أنه من عند الله ، الإخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار .

وقد تقدم أن المس هو الإصابة ، أي لن تصيبنا النار إلا أياماً ، استثناء مفرّغ ، أي لن تمسنا النار أبداً إلا أياماً معدودة ، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون .

وقيل : أراد بقوله : معدودة ، أي قلائل يحصرها العدّ ، لا أنها معينة العد في نفسه .

ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال : { قل أتخذتم عند الله عهداً } أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك ، وأنتم لم تتخذوا به عهداً ، فهو كذب وافتراء .

وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذي بدل على إنكار ما قالوه .

وهمزة الوصل من اتخذ ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام ، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال : قل اتخذتم ، بفتح اللام ، لأن الهمزة كانت مفتوحة .

وعند الله : ظرف منصوب باتخذتم ، وهي هنا تتعدى لواحد ، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين ، فيكون الثاني الظرف ، فيتعلق بمحذوف ، والعهد هنا : بالميثاق والموعد ، وقال ابن عباس معناه : هل قلتم لا إله إلا الله ، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار ؟ فعلى التأويل الأول المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون ؟ وعلى الثاني : هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون ؟ .

{ فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط ، كقولك : أيقصدنا زيد ؟ فلن نجيب من برنا .

وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء ، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط ؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها ؟ ولذلك قال الزمخشري : فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده ، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء .

وقال ابن عطية : { فلن يخلف الله عهده } ، اعتراض في أثناء الكلام ، كأنه يريد أن قوله : { أم تقولون } معادل لقوله : { قل أتخذتم عند الله عهداً } ، فصارت هذه الجملة ، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل ، جملة اعتراضية ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وكأنه يقول : أي هذين واقع ؟ أإتخاذكم العهد عند الله ؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون ؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم : { على الله ما لا يعلمون } ، ونظيره : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال .

وقيل : أم هنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة ، كأنه قال : بل أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ وهو استفهام إنكار ، لأنه قد وقع منهم قولهم : على الله ما لا يعلمون ، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم .

وفي قوله : { فلن يخلف الله عهده } دليل على أن الله لا يخلف وعده .

واختلف في الوعيد ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه ، كما لا يخلف وعده .

وذهب قوم إلى جواز إخلاف إيعاده ، وقالوا : خلاف الوعد قبيح ، وإخلاف الوعيد حسن ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين .

/خ82