الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (80)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : { وقالوا } يعني اليهود . { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } اختلف ، في سبب نزولها ، فقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود : " من أهل النار " . قالوا : نحن ، ثم تخلفونا أنتم . فقال : " كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم " فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد . وقال عكرمة عن ابن عباس : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول : إنما هذه الدنيا سبعة آلاف ، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة ، وإنما هي سبعة أيام ، فأنزل الله الآية ، وهذا قول مجاهد . وقالت طائفة : قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم . ورواه الضحاك عن ابن عباس . وعن ابن عباس : زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم . وقالوا : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك . وعن ابن عباس أيضا وقتادة : أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل ، فأكذبهم الله ، كما تقدم .

الثانية : في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام : " دعي الصلاة أيام أقرائك " في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض ، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة ، قالوا : لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين ، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام ، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة ، قال الله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج{[915]} } [ البقرة . 196 ] ، { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام{[916]} } [ هود : 65 ] ، { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما{[917]} } [ هود : 7 ] .

فيقال لهم : فقد قال الله تعالى في الصوم : " أياما معدودات " يعني جميع الشهر ، وقال : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات{[918]} } [ آل عمران : 24 ] يعني أربعين يوما . وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد ، بل يقال : أيام مشيك وسفرك وإقامتك ، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد ، ولعله أراد ما كان معتادا لها ، والعادة ست أو سبع ، فخرج عليه ، والله أعلم .

الثالثة : قوله تعالى : { قل أتخذتم } تقدم القول في " اتخذ{[919]} " فلا معنى لإعادته .

قوله تعالى : { عند الله عهدا } أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار ! أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم . قوله تعالى : { فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } ، توبيخ وتقريع .


[915]:راجع ص 399 من هذا الجزء.
[916]:راجع ج 9 ص 60.
[917]:راجع ج 18 ص 259
[918]:راجع ج 4 ص 351
[919]:راجع ج 1 ص 396 طبعة ثانية.