المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (226)

226- وهؤلاء الذين حلفوا ألا يقربوا نساءهم يُمْهَلُونَ أربعة أشهر ، فإن أتوا نساءهم في أثنائها استمر الزواج وعليهم كفارة اليمين وغفر لهم وتقبل منهم الكفارة رحمة بهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (226)

221

وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف ، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء : وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته . إما لأجل غير محدود ، وإما لأجل طويل معين :

( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) . .

إن هناك حالات نفسية واقعة ، تلم بنفوس بعض الأزواج ، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة ، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة ، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا ؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى ؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية ؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة ، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول .

ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية ، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته . كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم ، أو ثورة غضب ، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى . .

ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك ، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها ؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة ، لا تستمتع بحياة زوجية معه ، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى .

فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة ، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة . جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء . لا يتجاوز أربعة أشهر . وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال ، كي لا تفسد نفس المرأة ، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر . وقد روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج من الليل يعس . أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفيا . فسمع امرأة تقول :

( تطاول هذا الليل وأسود جانبه % وأرقني إلا خليل ألاعبه )

( فوالله ، لولا الله إني أراقبه % لحرك من هذا السرير جوانبه )

فسأل عمر ابنته حفصة - رضي الله عنها - كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر - أو أربعة أشهر - فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجياش أكثر من ذلك . . وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة . .

وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور . ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره . فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة ، ويرجع إلى زوجه وعشه ، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (226)

{ للذين يؤلون من نسائهم } أي يحلفون على أن لا يجامعوهن . والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن . { تربص أربعة أشهر } مبتدأ وما قبله خبره ، أو فاعل الظرف على خلاف سبق ، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع ، أي للمولى حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ، ولا طلاق ، ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده { فإن فاؤوا } رجعوا في اليمين بالحنث ، { فإن الله غفور رحيم } للمولى إثم حنثه إذا كفر ، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه ، بالفيئة التي هي كالتوبة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (226)

استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام . كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح ، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء : 19 ] فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى . وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك .

وعن سعيد بن المسيب : « كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة » أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم . قال : « ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى » فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة } [ البقرة : 224 ] .

والإيلاء : الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوَّة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة .

وقال الراغب : « الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى : { لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [ النور : 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص » فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً ، ويذكرونه كثيراً ، قال المتلمس :

* آلَيْتُ حبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه *

وقال تعالى : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [ النور : 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا : { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين . وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص .

ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة . وعدى فعل الإيلاء بمِن ، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى ؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمِنْ للابتداء المجازي .

والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض }

[ البقرة : 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] .

والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظِر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى « في » كقوله تعالى : { بل مكر الليل } [ سبأ : 33 ] .

وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذِكْر المسند إليه . و { فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود . والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود .

وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم ؛ لأن الله غفور رحيم . وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام ، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن ، قصدُ الإضرار بالمرأة . وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعاً ، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً . وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال ، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك . والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور .

وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل ، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ ، إن لم يقيدوها بالحلف .

وعَزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة