35- وإن كان قد شق عليك انصرافهم عن دعوتك ، فإن استطعت أن تتخذ طريقاً في باطن الأرض ، أو سلماً تصعد به إلى السماء ، فتأتيهم بدليل على صدقك ، فافعل . وليس في قدرتك ذلك . فأرح نفسك واصبر لحكم ربك ، ولو شاء الله هدايتهم لحملهم جميعاً على الإيمان بما جئت به قسراً وقهراً ، ولكنه تركهم لاختيارهم فلا تكونن من الذين لا يعلمون حكم الله وسنته في الخلق .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله [ ص ] من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، أو سلما في السماء ، فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون ) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فأتهم بآية !
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه
( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين ) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
{ وإن كان كبر عليك } عظم وشق . { إعراضهم } عنك وعن الإيمان بما جئت به . { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية ، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية ، وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلما ، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل ، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته ، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة . { فلا تكونن من الجاهلين } بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة .
وقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } الآية ، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به ، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين ، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون ، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه ، وله ذلك كله بحق ملكه { فلا تكونن من الجاهلين } في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أسلوب معنى الآية ، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و { كبر إعراضهم } خبرها ، ويصح أن يكون { إعراضهم } هو اسم كان ويقدر في { كبر } ضمير وتكون { كبر } في موضع الخبر ، والأول من الوجهين أقيس ، والنفق : السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع{[4900]} ، والسلم :الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى ، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم ، ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل } : [ البسيط ]
لا يَحْزُنُ المَرْء أحْجاء البلادِ ولا . . . تُبْنَى له في السماواتِ السَّلاليمُ{[4901]}
و { تأتيهم بآية } أي بعلامة ، ويريد إما في فعلك ذلك ، أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء ، وإما أن { تأتيهم بالآية } من احدى الجهتين ، وحذف جواب الشرط قبل في قوله { إن استطعت } إيجاز لفهم السامع به ، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم ، و { لجمعهم } يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين ، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم ، و[ الهدى ] : الإرشاد ، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر ، وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه ، تعالى عن قولهم ، و { من الجاهلين } يحتمل في أن لا يعلم أن الله { لو شاء لجمعهم } ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده ، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به ، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { فلا تكونن من الجاهلين } وبين قوله لنوح عليه السلام { إني أعظك أن تكون من الجاهلين }{[4902]} وقد تقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، قال مكي والمهدي : والخطاب بقوله { فلا تكونن من الجاهلين } للنبي عليه السلام والمراد به أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : ُوِّقر نوح لسنه وشيبته ، وقال قوم : جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل المعاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب .
قال القاضي أبو محمد : والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما ، وبين أن الأمر الذي نهي عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدراً وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم .
عطف على جملة : { قد نعلم إنّه لَيُحْزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حَزَناً على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها ، وحزناً من جرّاء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم ، وقد سلاّه الله تعالى عن الحزن الأول بقوله { فإنّهم لا يكذبونك } [ الأنعام : 33 ] وسلاّه عن الثاني بقوله : { وإن كانَ كَبُر عليك إعراضهم } الآية .
و { كبُر } ككرم ، كِبراً كعنب : عظمت جثّته . ومعنى { كَبُر } هنا شقّ عليك . وأصله عظم الجثّة ، ثم استعمل مجازاً في الأمور العظيمة الثقيلة لأنّ عظم الجثّة يستلزم الثقل ، ثم استعمل مجازاً في معنى ( شقّ ) لأنّ الثقيل يشق جمله . فهو مجاز مرسل بلزومين .
وجيء في هذا الشرط بحرف ( إنْ ) الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظنّ حصوله للإشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بمظنّة ذلك ولكنّه على سبيل الفرض .
وزيدت ( كان ) بعد ( إنْ ) الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تُخلّصه ( إن ) الشرطيّةُ إلى الاستقبال ، كما هو شأن أفعال الشروط بعد ( إن ) ، فإنّ ( كان ) لقوّة دلالته على المضي لا تقلبه أداة الشرط إلى الاستقبال .
والإعراض المعرّف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } [ الأنعام : 4 ] . وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب ، وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم .
وقوله : { فإن استطعت } جوابُ { إن كان كبر } ، وهو شرط ثان وقع جواباً للشرط الأول . والاستطاعة : القدرة . والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع ، أي انقاد .
والابتغاء : الطلب . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { أفغير دين الله تبغون } في سورة [ آل عمران : 83 ] ، أي أن تَطْلُبَ نَفَقاً أو سُلّماً لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها وإلى خبايا السماء . ومعنى الطلب هنا : البحث .
وانتصب { نفقاً } و { سُلّما } على المفعولين ل { تبتغي } .
والسّلَّم بضمّ ففتح مع تشديد اللاّم آلة للارتقاء تتّخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرّقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كلّ من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدَى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك ، وتسمّى تلك الأعواد دَرَجَات . ويجعلُ طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه . ويسمَّى السلّم مِرْقاة ومِدْرَجة . وقد سمّوا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سُلّما . وكانوا يرتقون بالسلّم إلى النخيل للجذاذ . وربما كانت السلاليم في الدور تتّخذ من العود فتسمّى المرقاة . فأمّا الدرج المبنيّة في العَلالي فإنّها تُسَمَّى سُلّماً وتسمّى الدّرَجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات « حتّى انتهيت إلى دَرَجة له » ، وفي رواية « حتّى أتيت السلّم أريد أن أنزل فأسْقُطُ منه »
وقوله { في الأرض } صفة { نفقاً } أي متغلغلاً ، أي عميقاً . فذكر هذا المجرور لإفادة المبالغة في العمق مع استحضار الحالة وتصوير حالة الاستطاعة إذ من المعلوم أنّ النفق لا يكون إلاّ في الأرض .
وأمّا قوله : { في السماء } فوصف به { سُلّما } ، أي كائناً في السماء ، أي واصلاً إلى السماء . والمعنى تبلغ به إلى السماء . كقول الأعشى :
ورُقّيتَ أسبَاب السّمَاء بسُلّم
والمعنى : فإن استطعت أن تطلب آية من جميع الجهات للكائنات . ولعلّ اختيار الابتغاء في الأرض والسماء أنّ المشركين سألوا الرسول عليه والصلاة والسلام آيات من جنس ما في الأرض ، كقولهم { حتّى تُفجّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] ، ومن جنس ما في السماء ، كقولهم : { أو ترقى في السماء } [ الإسراء : 93 ] .
وقوله : { بآية } أي بآية يسلّمون بها ، فهنالك وصف محذوف دلّ عليه قوله : { إعراضهم } ، أي عن الآيات التي جئتهم بها .
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه فعل الشرط ، وهو { استطعت } . والشرط وجوابه مستعملان مجازاً في التأييس من إيمانهم وإقناعهم ، لأنّ الله جعل على قلوبهم أكنّة وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها .
ويتعيّن تقدير جواب الشرط ممّا دلّ عليه الكلام السابق ، أي فأتهم بآية فإنّهم لا يؤمنون بها ، كما يقول القائل للراغب في إرضاء مُلحّ . إن استطعت أن تجلب ما في بيتك ، أي فهو لا يرضى بما تقصر عنه الاستطاعة بلْهَ ما في الاستطاعة . وهو استعمال شائع ، وليس فيه شيء من اللوم ولا من التوبيخ ، كما توهّمه كثير من المفسّرين .
وقوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } شرط امتناعي دلّ على أنّ الله لم يشأ ذلك ، أي لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم عليه ؛ فمفعول المشيئة محذوف لقصد البيان بعد الإبهام على الطريقة المسلوكة في فعل المشيئة إذا كان تعلّقه بمفعوله غير غريب وكان شرطاً لإحدى أدوات الشرط كما هنا ، وكقوله : { إن يشأ يُذهبكم } [ النساء : 133 ] .
ومعنى : { لجمعهم على الهدى } لهداهم أجمعين . فوقع تفنّن في أسلوب التعبير فصار تركيباً خاصِّيّاً عدل به على التركيب المشهور في نحو قوله تعالى : { فلو شاء لهداكم أجمعين } [ الأنعام : 149 ] للإشارة إلى تمييز الذين آمنوا من أهل مكّة على من بقي فيها من المشركين ، أي لو شاء لجمعهم مع المؤمنين على ما هدى إليه المؤمنين من قومهم .
والمعنى : لو شاء الله أن يخلقهم بعقول قابلة للحقّ لخلقهم بها فلَقَبلُوا الهدى ، ولكنّه خلقهم على ما وصف في قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الأنعام : 25 ] الآية ، كما تقدّم بيانه . وقد قال تعالى : { ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة } [ هود : 118 ] ، وبذلك تعلم أنّ هذه مشيئة كليّة تكوينيّة ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة [ 148 ] { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } الآية . فهذا من المشيئة المتعلّقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلّقة بالأمر والتشريع . وبينهما بَوْن ، سقط في مهواته من لم يقدّر له صون .
وقوله : { فلا تكونّن من الجاهلين } تذييل مفرّع على ما سبق .
والمراد ب { الجاهلين } يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضدّ العلم ، كما في قوله تعالى خطاباً لنوح { إنّي أعظُك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] ، وهو ما حمل عليه المفسّرون هنا . ويجوز أن يكون من الجهل ضدّ الحلم ، أي لا تضق صدراً بإعراضهم . وهو أنسب بقوله : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } . وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين : جملة : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } وجملة { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } . ومع كون هذه الجملة تذييلاً للكلام السابق فالمعنى : فلا يَكْبُرْ عليك إعراضهم ولا تضق به صدراً ، وأيضاً فكن عالماً بأنّ الله لو شاء لجمعهم على الهدى . وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من علم الحقيقة يختصّ بحالة خاصّة فلا يطّرد في غير ذلك من مواقف التشريع .
وإنّما عدل على الأمر بالعلم لأنّ النّهي عن الجهل يتضمّنه فيتقرّر في الذهن مرتين ، ولأنّ في النهي عن الجهل بذلك تحريضاً على استحضار العلم به ، كما يقال للمتعلّم : لا تنسى هذه المسألة . وليس في الكلام نهي عن شيء تلبّس به الرسول صلى الله عليه وسلم كما توهّمه جمع من المفسّرين ، وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين .