( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) . .
كذلك . فما يحسب للإنسان إلا كسبه وسعيه وعمله . لا يزاد عليه شيء من عمل غيره . ولا ينقص منه شيء ليناله غيره . وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى . فإذا مات ذهبت الفرصة وانقطع العمل . إلا ما نص عليه حديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في قوله : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له . أو صدقة جارية من بعده . أو علم ينتفع به " . . وهذه الثلاثة في حقيقتها من عمله . ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي - رحمه الله - ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم . ولهذا لم يندب إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه . وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء . فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما . .
قوله جلّ ذكره : { أَلاََّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى } .
الناسُ في سَعْيِهم مختلِفون ؛ فَمَنْ كان سعيُهُ في طلب الدنيا خَسِرت صفقتُه ، ومن كان سعيُهُ في طَلَبِ الجنة ربحت صفقته ، ومن كان سعيُهُ في رياضة نَفْسِه وصل إلى رضوان الله ، ومَنْ كان سعيُه في الإرادة شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَه ثم هداه إلى نَفْسِه .
وأمَّا المُذْنِبُ - فإِذا كان سعيُهُ في طلب غفرانه ، ونَدَمِ القلبِ على ما اسودَّ من ديوانه ، فسوف يجد من الله الثوابَ والقربة والكرامة والزلفة .
ومَنْ كان سَعْيُه في عَدِّ أنفاسِه مع الله ؛ لا يُعَرِّج على تقصير ، ولا يُفَرِّط في مأمور فسيرى جزاءَ سَعْيهِ مشكوراً في الدنيا والآخرة ، ثم يشكره بأَنْ يُخاطِبَه في ذلك المعنى بإِسماعهِ كلامَه من غير واسطة : عبدي ، سَعْيُك مشكور ، عبدي ، ذَنْبُكَ مغفور .
39-40-41- { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } .
أي : وجاء في صحف إبراهيم وموسى ، عليهما السلام ، أن الإنسان لا يجني إلا ثمرة ما عمل ، فهو لا يعاقب على ذنب ارتكبه غيره ، ولا يكاف4أ إلا على عمل قد قام به ، وسعي قد سعاه .
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم أن ليس للإنسان إلا سعيه ! ؟ فلا يثاب بعمل غيره ، كما لا يؤاخذ بذنب غيره . أما في شريعتنا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع انتفاع الإنسان بعمل غيره ، ونقل العلامة الجمل في حاشيته على الجلالين بحثا نفيسا لشيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن تميمة ، ننقل خلاصته لمزيد فائدته . قال : " من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع ؛ وذلك باطل من وجوه : أحدها – أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . ثانيها – أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ، ثم لأهل الجنة في دخولها . ثالثها – يشفع لأهل الكبائر في الخروج من النار ؛ وهذا انتفاع بسعي الغير . رابعها – أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض ؛ وذلك منفعة بعمل الغير . خامسها – أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط – أي من المؤمنين – بمحض رحمته ؛ وهذا انتفاع بغير عملهم . سادسها – أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ؛ وذلك انتفاع بمحض عمل الغير . سابعها – قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين : " وكان أبوهما صالحا " {[333]} ؛ فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما . ثامنها – أن الميت ينتفع بالصدقة عنه
وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ؛ وهو من عمل الغير . تاسعها – أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير ، عاشرها – أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير . حادي عشرها – المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو من عمل الغير . ثاني عشرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده : ( ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه ) ؛ فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير . ثالث عشرها – أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير . رابع عشرها – أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير . خامس عشرها – أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات – كما جاء في الأثر - ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير . سادس عشرها – أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ؛ وهو لم يكن منهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ؛ فقد انتفع بعمل غيره . سابع عشرها – الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحي عليه ؛ وهو عمل غيره . ثامن عشرها – أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد ؛ وهو انتفاع للبعض بالبعض . تاسع عشرها – أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " {[334]} . وقال تعالى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " {[335]} فقد رفع الله تعالى عن بعض الناس بسبب بعض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير . عشروها – أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ؛ فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها . ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله مالا يكاد يحصى ؛ فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ! ؟ " اه . فإما أن يقال : إن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة مما ذكر . أو يقال : إنها مخصوصة بقوم موسى وإبراهيم ؛ لأنها حكاية عما في صحفهما . وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها ؛ بدليل ما ذكر ، وبدليل قوله تعالى : " ألحقنا بهم ذريتهم " {[336]} حين أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء . أو يقال : إن سعي غيره لما لم ينفعه
إلا مبنيا على سعي نفسه وهو بكونه مؤمنا كان كأنه سعى نفسه . أو يقال : إن المراد بالإنسان الكافر . والمعنى : أنه ليس له من الجزاء إلا ما عمل هو ؛ فيثاب عليه في الدنيا بسعة الرزق والمعافاة في البدن ونحو ذلك ، حتى لا يبقى له في الآخرة منها نصيب . أو يقال : " ليس للإنسان إلا ما سعى " أي عدلا ؛ فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله من فضله ما يشاء . وفي الحديث الصحيح : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث – وفيه - : أو ولد صالح يدعو له ) . وهذا كله تفضل منه تعالى ، كما أن تضعيف الحسنات فضل منه تعالى . هذا وقد نقل الخازن في تفسيره الأحاديث الصحيحة الواردة في الحج عن الغير ، ثم قال : وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصل ثوابها إليه ؛ وهو إجماع العلماء . وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين ؛ للنصوص الواردة في ذلك . ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام . وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي . واختلف العلماء في الصوم عنه ، والراجح جوازه عنه . والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصل ثوابها للميت . وذهب أحمد وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل ؛ فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه : اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، ونحو ذلك . وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله ثوابها عند الشافعي والجمهور . وقال أحمد : يصله ثواب الجميع . ا . ه .
وقد أشبعنا الكلام في هذا المقام في فتوى الأربعين . والله أعلم .
{ وأنَّ ليس للإنسان إلا ما سعى } : أي من خير وشر ، وليس له ولا عليه من سَعي غيره شيء .
* وأن ليس للإِنسان من ثواب يوم القيامة إلا ما سعى في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح " إذا مات ابن آدم انقطع مله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به " إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإِنسان وسعيه الولد انجبه ورباه .
قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي : عمل ، كقوله : { إن سعيكم لشتى }( الليل-4 ) وهذا أيضاً في { صحف إبراهيم وموسى }( الأعلى-19 ) . وقال ابن عباس : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، بقوله : { ألحقنا بهم ذريتهم }( الطور-21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء . وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم ، لما روي أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر " . وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع بن أنس : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) يعني الكافر ، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له . قيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير . ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه ، فلما مات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفنه فيه ، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى . . . } معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه .
أى : كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى ، فكذلك لا يحصل الإنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره .
فالمراد بالسعى فى الآية . السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب .
قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما فعله هو لنفسه . وقد استدل الإمام الشافعي ( رحمه الله ) من هذه الآية أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأن ذلك ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم ) ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه . والقربات إنما يقتصر فيها على النصوص ولا يستند فيها على الآراء الأقيسة . أما الدعاء والصدقة فقد أجمعوا على وصولهما إلى الموتى وقد نص الشارع على ذلك . أما ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أوصدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة إنما هي من سعي الإنسان ومن كده وعلمه وقد جاء في الحديث : " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه " وإن ولده من كسبه ، والصدقة الجارية هي أثر من آثاره ، وكذلك العلم الذي نشره وعمل الناس بمقتضاه ، هو أيضا من سعيه وعلمه .