اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} (39)

قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف . ومحلها الجر{[53683]} أو الرفع{[53684]} ، أو النصب{[53685]} لعطفها على ( أن ) قبلها ، وكذلك محل : «وَأَنَّ سَعْيَهُ » . و«يُرَى » مبني للمجهول ، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر ، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً{[53686]} أي يرى حاضراً . والأول أوضح .

وقال مكي{[53687]} : وأجاز الزجاج : يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء ؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ{[53688]} ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن «سعيه » يصير قد عمل فيه أنّ ، و«يَرَى » . وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ ؛ لأنَّ دخولَ «أنّ » على «سَعْيَهُ » وعملها فيه ، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ «يُرَى » ؛ وعلى هذا جوز البصريون : إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء{[53689]} .

قال شهاب الدين : وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية ، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد ، ومنه باب التنازع في بعض صوره ، نحو : قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال . وهذا توهم باطل ؛ لأنا نقول : سَعْيَهُ منصوب «بأَنَّ » و«يُرَى » متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به{[53690]} .

وقد حكى أبو البقاء أنه قرئ به{[53691]} شاذًّا ، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال : وقرئ بفتح الياء ، وهو ضعيف ؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك : إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد ، فلا خبر «لغُلاَمٍ » .

وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي{[53692]} . وفيه بعد . انتهى{[53693]} .

قال شهاب الدين : وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر ؟ ! ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ ؟ ! وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ{[53694]} .

قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } أي عَمِل ، كقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتّى } [ الليل : 4 ] . وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى . قال ابن عباس - ( رضي الله{[53695]} عنهما ) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء .

وقال عكرمة : كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا «رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله : ألهذا حَجٌّ ؟ قال : نعم ، ولكِ أجرٌ » .

«وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها ؟ قال : نعم »{[53696]} .

قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة :

أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير .

الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار ، وهذا انتفاع بسعي الغير .

الثالث : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير .

الرابع : أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير .

الخامس : أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته . وهذا انتفاع بغير عملهم .

السادس : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ .

السابع : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } . فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما .

الثامن : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع ، وهو من عمل غيره .

التاسع : أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير .

العاشر : أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير .

الحادي عشر : أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلَّى وحده : «ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير » .

الثاني عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره .

الثالث عشر : أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره .

الرابع عشر : أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر ، وهذا انتفاع بعمل الغير .

الخامس عشر : أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره .

السادس عشر : الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره .

السابع عشر : أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد ، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ .

الثامن عشر : أن الله قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } وقال { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير .

التاسع عشر : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له .

العشرون : أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ؟ ! .

والمراد بالإنسان العُمُوم .

وقال الربيع بن أنس : ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له . وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير .

ويروى : أن عبد الله بن أبي ( ابن سلول ) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا .

وقوله : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى } أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له{[53697]} .

فإن قيل : العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه ؟ ! .

فالجواب من وجهين :

أحدهما : يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً .

الثاني : قال ابن الخطيب : وذلك على مذهبنا غير بعيد ، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى . ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك : «سترى إحسانك » أي جزاءه . وفيه نظر ؛ لقوله بعد ذلك : { ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى }{[53698]} .


[53683]:لأن "أن لا تزر" جملة في محل جر بدلا من "ما في صحف إبراهيم وموسى".
[53684]:فـ "أن لا تزر" يجوز فيها أن تكون خبر مبتدأ محذوف.
[53685]:فجملة "أن لا تزر" يجوز أن تكون منصوبة بأعني مقدرا. وقد سبق كل هذا عن قرب والبدل المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه جرا ونصبا ورفعا مفردا أو جملة محلا.
[53686]:والأول هو نائب الفاعل. وقد قال بالإعراب مكي في مشكل إعراب القرآن 2/333.
[53687]:المرجع السابق.
[53688]:قال: معناه فهو يعلم. والرؤية على ضربين؛ أحدهما: (رأيت) أبصرت والآخر علمت كما تقول: "...رأيت زيدا أخاك..... " معاني القرآن 5/75.
[53689]:انظر مشكل الإعراب السابق 2/333.
[53690]:ولم أعثر عليه قراءة في كتب القراءات الشاذة أو المتواترة.
[53691]:ولم يحدد من قرأ بذلك. فلم أجد من قرأ به كما قلت.
[53692]:وهو رأي السمين السابق.
[53693]:قاله في التبيان به 1190.
[53694]:الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 111.
[53695]:زيادة من أ.
[53696]:وانظر البغوي والخازن 6/268 و269.
[53697]:وانظر تفسير العلامتين البغوي والخازن في لباب التأويل ومعالم التنزيل 6/268 و269.
[53698]:بالمعنى من الرازي 15/17.