فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} (39)

{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وهذا أيضا من جملة ما في صحف موسى وإبراهيم ، والمعنى ليس له إلا أجر سعيه ، وجزاء عمله ، ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه : { وألحقنا بهم ذريتهم } ، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ، ونحو ذلك ، ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور ، فإن الخاص لا ينسخ العام ، بل يخصصه ، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه ، كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم ، وتعقب أيضا بأنها خبر ، ولا نسخ في الأخبار ، وبأنها على ظاهرها والدعاء من الولد دعاء من الوالد من حيث اكتسابه للولد ، وبأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما في صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها ، لما صح أن لكل نبي وصالح شفاعة ، وهو انتفاع بعمل الغير ، ولغير ذلك .

ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة وإجماع الأمة . وحينئذ فالظاهر ما قلنا أن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة ، قال ابن عباس في الآية : فأنزل الله بعد ذلك : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } الآية ، فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء ، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية استرجع واستكان ، وقيل : أراد بالإنسان الكافر ، والمعنى ليس له من الخير إلا عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا ، بأن يوسع عليه في رزقه ، ويعافى في بدنه . حتى لا يبقى له في الآخرة خير ، وقيل : هو من باب العدل ، وأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما يشاء من فضله وكرمه ، وقيل : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم .

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية {[1549]} رحمه الله : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع ، وذلك باطل من وجوه كثيرة :

أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره ، وهو انتفاع بعمل الغير .

ثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ، ثم لأهل الجنة في دخولها .

ثالثها : لأهل الكبائر في الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعي الغير .

رابعها : أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير .

خامسها : أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم .

سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .

سابعها : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين { وكان أبوهما صالحا } فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما .

ثامنها أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير .

تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .

عاشرها : أن الحج المنذور أو الصوم المنذور ، يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .

حادي عاشرها : المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب ، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من عمل الغير .

ثاني عشرها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ؟ " فقد حصل له فضل الجماعة بعمل الغير .

ثالث عشرها : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه ، وذلك انتفاع بعمل الغير .

رابع عشرها : أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير .

خامس عشرها : أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات ، كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير .

سادس عشرها : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن منهم ، ولم يجلس لذلك لحاجة عرضت له ، والأعمال } بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره .

سابع عشرها : الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره .

ثامن عشرها : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذلك الجماعة بكثرة العدد ، وهو انتفاع للبعض بالبعض .

تاسع عشرها : أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } وقال تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } الخ . وقال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } الخ فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .

عشروها : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ، ممن يمونه الرجل فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها .

حادي عشريها : أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ، ولا سعي له ، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان لما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ؟ انتهى كلامه رحمه الله .


[1549]:غفر الله لشيخ الإسلام، فقد خالف الآية على خلاف عادته، وعلى القارئ أن يراجع الملحق الذي نشرناه في آخر سورة يس(ج8ص57) ففيه رد صاحب المنار على كل ما سيذكره ابن تيمية وابن القيم.